خارج «الثقافة الشعبية»: موضوعة الكتابة في زجل أحمد لمسيح

2023-05-11

عبداللطيف الوراري

إبدال رابع

يعرف المغرب منذ بواكير تسعينيات القرن الماضي حركة شعرية مُطردة ومتأهبة، توازيها حركة نشر غير مسبوقة في تاريخ الشعر المغربي بكل أشكاله الممكنة وتعبيراته الوطنية المعرّب منها والعامي الدارج والأمازيغي؛ إذ تضاعف الإنتاج الشعري بصورة لافتة، بما في ذلك الاعتماد شبه الكلي على الوسائط الجديدة في الكتابة والانتشار والتداول، وارتبط بديمومة واتساع بنية منتجي الأعمال الشعرية ليشمل هوامش وأطرافا جديدة، على نحوٍ فَجر المركز الثقافي (الدار البيضاء – الرباط – فاس) وأدمج نصوصه ووظائفه ومرجعياته المُقررة في سيرورة بناء جديدة، بعد أن دخلت عليه تحولاتٍ فكرية وجمالية لا يزال النقد في الغالب مُعطلا عن إظهارها وتقويمها.

وفي هذا السياق، كنتُ قد طرحتُ قبل نحو عشرة أعوام مفهوم الحساسية كإبدال ذي كفاءة منهجية ونقدية لقراءة النص الشعري المغربي المعاصر وإعادة تأويله، بناء على التحول الجوهري الذي أصاب التجربة التاريخية والجمالية لهذا النص وأثر في هُويته ومنحنيات بنائه الفني. فإذا كانت في العقود السابقة منذ الاستقلال السياسي، قد تشكلت ثلاث «لحظات» كبرى لهذا الشعر أملتها سياقات سياسية وسوسيوثقافية متدافعة: شعر بلاغة التقليد التي ينتمي إلى الحركة الكلاسيكية الجديدة، وشعر بلاغة التأسيسات التي عنت بالشكل الجديد ومضمون الالتزام، وشعر بلاغة المغايرة والاختلاف التي أخذت تقطع مع إلزامات الماضي ومع التوظيف الشعاري- الأيديولوجي للشعر، فإن شعر الحساسية الجديدة هو بمثابة لحظة رابعة أو إبدال رابع؛ فهو من جهة أولى، شوش على «الهُوية الجَيْلية» التي كان معمولا بها في تصنيف التجارب السابقة وتحقيب فترات نشاطها الإبداعي، ومن جهة أخرى، جعل من المبادرات التجريبية التي اهتمت بصيغ الكتابة الشعرية جزءا لا يتجزأ من مجهود بلاغتها الجديدة، إذ انزاح مُمثلوها إلى الرؤيا التي تُعنى باكتشاف العالم ومواجهته، عوضا عن الموقف المباشر من السياسة والأخلاق والقيم. فالحساسية الجديدة باعتبارها سيرورة عبر زمنية، متجددة، وممتدة عموديا؛ فهي أوسع من أن تتأطر داخل مفهوم مغلق ونهائي مثل مفهوم الجيل، ولا ترتبط بعامل الزمن إلا بمدى قيمة فاعليها ودرجة حضورهم فيها إبداعيا ورهانهم الحاسم على الاختلاف والتعدد، وبالتالي فهي تكشف عن أثر التغير الذي يخترقها بالنظر إلى الانعطافات والإسهامات النوعية التي تضيفها إلى الوعي الشعري المعاصر، سواء في علاقتها بمجهود جمالي متعدد الروافد (شكلي، لساني، تعبيري) يقوم ولاؤه للكتابة وشرطها الفني، أو في علاقتها بتجربة فردية خاصة بشاعر ما متطورة في الزمن، ومعبرة في كل لحظة عن راهنيتها وزمنها الخاص.

وإذا كُنا في تحليلاتنا السابقة، قد ركزنا على أبرز جماليات الحساسية الجديدة في الشعر العربي المعاصر في المغرب، فإن هذه الجماليات نفسها تكاد تنطبق على الشعر المكتوب بالعامية المغربية، ومثل ذلك على الشعر الأمازيغي؛ وفي طليعتها الانهمام بالذات في صوتها الخافت والحميم وذاكرتها الطفولية، وإيلاؤها مرجع التلفظ داخل الفضاء النصي، فيما هي تواجه بهشاشتها وتصدعها نظام الأشياء والعالم واختلاطات الحياة اليومية من منظور حلمي وعدمي ولوذعي ساخر، أو بافتتان عاشق ونزوع جسداني ناقم لدى الشاعرات، بدلا من معضلات المجتمع وقضاياه الكبرى واشتراطاته الأيديولوجية، وتَرتب على ذلك تذويت الملفوظ الشعري وشخصنة الموضوعات والصور والمواقف من الذات والكتابة والوجود، على نحو عزز الخيار الكتابي وإحالاته الذاتية (الميتا شعر) وأعاد النظر في مستويات تشكل دوال الممارسة الشعرية بأضلاعها البلورية، مثل الانفتاح على السرد والسيرة الذاتية، والاعتناء بكتابة الشظايا وأسلوبها فقراتها الشذري، ودمج اللغة الشعرية في شبكة علائق معرفية جديدة أجرت تحويلا جوهريا في نُظُم بناء الدلالة وطرائق شعرنتها، من خلال استثمار مفردات ورموز الخطاب الصوفي والتوسل بتقنيات التشكيل والسينما وفضاء الرقمنة.

حساسية زجلية

إذا قصرنا حديثنا على شعر الزجل باعتباره أحد أضلاع الشعرية المغربية في كل الأزمنة، فإنه مثل نظيره المعرب يشهد حركة من حيث الإنتاج والتداول، بل دخل مختبر البحث الأكاديمي بعد عقود من المجافاة والتبخيس، وأصبحت تُنجز حوله أنطولوجيات أو مختارات شعرية، وضمن هذه الحركة يمكن أن نلتقط حساسية جديدة أحدثت مسافة جمالية بينها وبين السائد. فالقصيدة الزجلية انتقلت من طورها الشفاهي- الإنشادي إلى طورها الكتابي والمُفكر فيه، ومن ثمة اختفت القواعد التقليدية التي انبنى عليها نسقها المعماري – الإيقاعي (المدخل، الناعورة، الردمة) والبصري (الفراش والغطا) كما في قصيدة الملحون أو القصيدة المغناة المعروفة باسم (العشاقي) وحتى في نماذج من أزجال المعاصرين الذين ما زالوا يستثمرون تراث (العيوط) و(البراويل) وقاموس البادية المغربية وأمثالها ومردداتها الغنائية وحكاياتها الدارجة.

لقد أخذت تتوطن داخل هذه القصيدة بفضل جهود جيل جديد موهوب ومثقف ومُطلع على منجز الشعر الإنساني (أحمد لمسيح، إدريس مسناوي، مراد القادري، رضوان أفندي، عادل لطفي، احميدة بلبالي، نهاد بنعكيدة، ثورية قاصي، فاطمة الزهراء الزرييق، إلخ) حساسية جديدة تنزع إلى تثوير المكتوب لغة وتصويرا وبناء، وهو ما بات يؤزم مفهوم (الثقافة الشعبية) التي كانت حاضنة للزجل المغنى وغيره من الفنون القولية العامية، ولم تكن تخلو من فلكرة. فالزجل صار ينتج دارجته الخاصة، بله العالمة التي تتخللها صنوفٌ من المعرفة الإنسانية (التصوف، الفلسفة، السينما، التشكيل، التاريخ المحلي أو من أسفل..) ما ساهم في ثراء معجم اللغة المحكية وبنياتها الفنية. وداخل نزوعه الكتابي، أخذ الزجل يفرض، من منظور جمالية التلقي، نمطا جديدا من التأويل لفهم خطابه الرمزي – الكنائي القائم على معطيات الحلم والهذيان والأحجية والباروديا وتيار اللاوعي الذي تسنده خلفية تراثية وطفولية (ذكريات، رموز، أقنعة، صور وتمثلات طوطمية). ومن هنا، فلغة الكتابة التي يتوسلها فضاء الزجل تتجاوز وظيفتها التواصلية لتقترح على متلقيها لغة مختلفة تعتمد على وسائط تعبيرية جديدة بها تحرر ما تفكر فيه من المبتذل والمتواضع عليه، بل تجعل من نفسها ـ في أحايين أخرى- سلطة رمزية داخل الصفحة بطرائق القلب والمحو والإزاحة.

مغامرة الكتابة

يعد أحمد لمسيح في طليعة هؤلاء الزجالين المغاربة المُجددين. قَدِم من بلدة زاوية سيدي إسماعيل؛ إحدى قلاع دكالة ومنابتها الخصبة التي تموج بالثمار والحكايات والمرددات الغنائية والاحتفالات طوال السنة الفلاحية، إلى مواسم الشمال الحارقة:

«جيتْكُم كتفي عريان دفوني

منكم طالب لحْمية لا تلوموني

رانا غير مسيح

ديعْني النـ… شاطْ

لخرين سلامْهم ركلة بالسباط

جايكم هَرْبان بالمحبة

نْخبي مَنْها ما شاط

راني انْبَتْ في دكالة

وتْقَوْلبت في الرباط»

واجه مثل مُجايليه من رفاق السبعينيات ظروفا سياسية وسوسيوثقافية صعبة تأثر فيها في كتابته الشعرية، وتأثر بالهوى اليساري ومفرداته داخل ما تمليه هذه الكتابة، قبل أن يستقل بأسلوبه الشعري الذي قدمه للقارئ، بوصفه رائد القصيدة الزجلية الحديثة في المغرب. وقد شكلت باكورته الشعرية «رياح.. التي ستأتي» (1976) أول عمل زجلي حديث داخل الشعر المغربي، في وقت كان يُنظر فيه إلى الشعر بالعامية بازدراء وتعالٍ. كان منصرفا إلى مغامرته بمزيج من الوفاء والعقوق في آن، يُصالح بين ثقافته العصرية وبيئته المحلية، ويراقب ذلك التوازن الصعب بين البعد الصوتي الملازم للقصيدة الزجلية والمنحدر من فن الملحون العريق، وجمالياتها الكتابية الجديدة والمؤسسة لحداثتها. ولهذا، يلاحظ القارئ تطور تجربة أحمد لمسيح الزجلية؛ فقد أسست أفقا شعريا وكتابيا جديدا يضاهي نظيره الفصيح، وانحازت – على نحو ما يشبه مرافعة فنية – إلى صوتها الفردي من خلال كتابة بصرية مُتقشفة، محكية، تصدر في رؤيتها الخاصة للأشياء من زاوية حساسة ومتراخية تمزج بين السخرية والحكمة والتأمل الصوفي، كأنما هي مغامرة «اللسان الدارج» ويأسه من رطانات اليومي والمبتذل، وكأن ارتحالات الأنا الشعري من عدوى هويته الإسمية: «أنا غير مْسَيح بوهالي» و«سايح ورا حكمة المحبة». يمكن أن نُمفصل هذه التجربة إلى ثلاث لحظات أساسية ومتدافعة يأخذ بعضها برقاب بعض، وكل لحظة منها تتقومُ ببلاغتها الخاصة التي وجهتها وأوجدت شروطها التعبيرية:

ـ لحظة الالتزام؛ وهي ارتبطت بسياقها السياسي السبعيني الحرون وهيمن عليها الهاجس الأيديولوجي، حيث جعل شعره وسيلة للتحريض والتعبير عن قضايا النضال ومقاومة كل أشكال القمع والاضطهاد التي ولدت الشعور بالضياع والإخفاق والاغتراب الجماعي، مستثمرا من خلاله التراث الشفوي المحلي القريب من أفهام «العامة» كما في ديوانيه: «رياح.. التي ستأتي» و«بلادي».

ـ لحظة الباروديا أو المفارقة الساخرة؛ وهي تتعلق بنقض الأطروحة السابقة من خلال شعور الذات الكاتبة المُمض بالخيبة ولا جدوى التغيير، وبالتالي نقض أوهام الأنا «الجمعي» ومشاريعه المحلوم بها، وتقويضها عبر توظيف آليات اللعب بالحروف والكلمات، والتهجين المعجمي، وقلب نُظُم الدلالة؛ أي نفي الطابع الدوغمائي والنفعي للغة التي يتكلمها الشعب ويجترها بلا غاية، كما في ديوانيه: «توحشت راسي» و«شكون اطرز الما؟!». إنها سخرية من الذات، ومن منطق اللغة وبلاغتها التقليدية لصالح ذات أخرى، حلمية ومُتخلية عما يشدها إلى خارجها.

ـ لحظة التذويت؛ وهي التي انصرفت فيها كتابة أحمد لمسيح إلى ذاتها وأشيائها الحميمة وعالمها الجواني، لكن دون أن تنغلق على نفسها، أو تستنزفها داخل أصولية مُتصلبة، لأنها جعلت من فضاء الصفحة (علاقات، فراغات، علامات ترقيم..) مجالا سيميائيا حيويا لتأويل وجوه تلفظها الخاص الذي به تقتدر على تفتيت تناقضاتها الداخلية و«لاهوت» ثنائية الدليل (البين بين) بقدر لا يتم مجال عبورها إلى ذلك إلا بالآخر الذي يضيئها ويمنحها أسباب الوجود الحي. كما صنعت من احتكاكها بتراث الحكمة والعرفان ونصوص المجاذيب «الربانيين» (أبو الحسن الششتري، عبد الرحمن المجذوب، سيدي قدور العلمي..) مصفاة لتقطير اللغة، وتهذيبها، وجعلها أكثر تفصيحا من العامية، كما في الدواوين: «حريفات» و«ريحة الكلام» و«خيال الما» و«حال وأحوال» و«بسمة» و«أنا ماكاينش» وغيرها.

تضاهي هذه اللحظة من انشغالات الكتابة الزجلية عند أحمد لمسيح، نظائرها في الشعر العربي المعاصر، بما تكشف عنه من نزوع كتابي متعددة الروافد وروح تجريبية مركزة، ويمكن أن نقترح مداخل/ عناصر متراكبة لقراءتها: الأليغوري، الميتاشعري، الشذري، الجسدي والعرفاني. والطريف أن هذه العناصر تشتغل ضمن موضوع الكتابة ولا تنفصل عنه، وسجلها المعجمي والتخييلي (الحرف، المداد، الماء، الدمع، موج البحر، النور، الريح، الرائحة، الحلم، الخيال..) سائل ومتدفق يشف عن كينونة الذات واستعذابها المستمر للمخاضات في مطهر العشق والموت وانحيازها للحرية والخلاص، حيث الكتابة طقس عبادة ومنصة استشفاء:

«صفحة مْـدَلية من بْحر لِيام

غامض وضاوي/ هايج وساكن

رايم ومْـﭭلب/ كاين ومـا كاين

دخان جايع يلهث

يْفتش على عافية يْطِير منها.

عينِي ثرثارة

سكـْنت فيها نوارة

تَتعـاشَق مع راسْها – في دْمُوعي

جفـوني اسْـوار- تحجبها من العجاج

مقلقـة/ علاش:

الصمت تـْنَفـس وقـت صلاتها؟»

فالاشتغال على الصفحة ليس كحامل مادي وحسب، بل كذريعة نصية تعيد تأويل المكتوب وتسييقه (من السياق) في لعبة إنتاج المعنى: اختلاط، هيجان، تحول. ومن هنا، يعطي الزجال الأولوية في نصه لسلطة الدال الذي لا يلغي من حسابه ما هو جسدي كنسق رمزي موازٍ يستثير مكنونات اللاوعي ودفائن الرغبة، ويشرع الملفوظ في علاقته بمؤوليه المحتملين على ممكنات الخطاب، بما ينطوي عليه من قلب وتحويل ومحو. فالكتابة تفكر داخل الكتابة، وتنزاح من الهامش إلى المركز الذي لا يحيل على مرجع خارجي قار، بقدر ما يخلق مرجعه ذاتيا حين يرتفع كوجيتو الكتابة إلى شكل إستطيقي ثوري يعيد تسمية ما هو مألوف ومبتذل ويُشوش على منطق الدلالة العقلاني بين حدي الحضور والغياب:

«خفت نكون فايق

والحلمة تتحرق

ورمادها ما يكون مداد

المداد اللي ما فيه دم.. حروفُه ممحية».

فلنقُلْ إن محبرة أحمد لمسيح لا تخط على الشاكلة، إنما هي تهرق (تغرق) الحروف حتى تترنحُ وتتبادل الأثر والمأثرة، ومثل ذلك مزاجه العابر الذي من نسيج الروح المغربية في كل حالاتها المتقلبة.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي