دورنمات الفلسفي والبوليسي معا: كأن العدالة أقلّ ذكاء مما ينبغي؟

2023-05-10

حسن داوود

شأن أغلب الروايات البوليسية، تبدأ رواية «القاضي والجلاد» سردها الحدثي من صفحتها الأولى: سيّارة مارسيدس زرقاء مركونة على جانب الطريق المؤدية إلى الغابة. في المقطع التالي من الصفحة الأولى ذاتها، نقرأ أن الرجل الجالس خلف المقود مقتول برصاصة اخترقت صدغيه. وكما يحدث أحيانا في هذا النوع من الروايات، يصادف أن يكون مَن شاهدَ السيارة المركونة وسائقها المقتول رجلَ شرطة انتبه من فوره إلى أن باب السيارة الأيمن مفتوح، ما يدلّ على شيء سنعرفه في ما بعد. وأن القتيل هو أولريش شميد، النقيب هو أيضا في سلك شرطة مدينة برن.

بلا مقدّمات يُدخلنا فريدريش دورنمات في حكايته البوليسية، تلك التي سنعرف لاحقا أن معظم شخصياتها، القاتل والقتيل والمحققين كافة على اختلاف رتبهم، هم رجال شرطة. الرواية إذن، في ما سيتلو من أحداثها، تحكي عن صراع تنافسي بين هؤلاء. أما ميدان الصراع فهو التسابق على كشف وقائع الجريمة، حيث ينبغي، من اليوم الآول، تحقيق تقدّم فيها، على الرغم من اعتراف الشرطيين أن إمكاناتهم ومعارفهم ضئيلة بالقياس إلى ما لدى شرطة شيكاغو!

وكما في جميع الروايات البوليسية ينبغي لقرّائها أن يظلّوا مستعدين لحدوث مفاجأة، أو مفاجآت، تبقيهم متعلّقين بها. دورنمات لا يقلّهم سعيا إلى التشويق فقرّاؤه، على رغم غوص روايته في أعماق الشخصيات والمشكلات الشخصية لكل منهم، ورغم طابعها الفلسفي، وهذا ما تتميز به حواراتها على الأخصّ، يظل هؤلاء القراء مشدودين إلى متابعة فصول الجريمة.

ففي بوليسية دورنمات ما يختلف عما يُقرأ في نوع الروايات المماثل، فالمزاج الخاص، الذي يُضفى على المحقٌّق البطل في العادة صانعٌ هنا لتكوينه الشخصي، وليس مجرّد ديكور لجاذبية صورته. المحقٌّق برلاخ الكهل، المتوجع دائما من ألم في معدته، لكنه مستشرف لما ستتكشّف عنه الدلائل الأولى، يمكن له أن يكون شخصية أولى في رواية نفسية تحليلية، ما يدلّ أحيانا إلى أن روائيّنا دورنمات ذهب إلى أبعد من لعبة الذكاء، الذي تتطلّبه كتابة التشويق البوليسي.

من ذلك مثلا أن علاقة برلاخ هذا بجاستمان، المتهم بارتكاب الجريمة، تبدو كأنها خرجت من سياق الرواية الحدثي، لتقوم بين رجلين يمثّل كل منهما موقفا مختلفا من الحياة. من قبل أن يصيرا مشتركين في الجريمة، أحدهما محقّق وآخر متهم، كانا مترافقين وهما تَراهنا على فكرة فلسفية وجنائية في الوقت نفسه، قوامها استحالة حدوث الجريمة الكاملة. أول الرجلين، وهو المحقّق، كان يرى أن السبب في حتمية الكشف عن معظم الجرائم يرجع إلى عدم الكمال البشري، وأننا «لا نفسح في أفكارنا مجالا للمصادفة التي تتدخّل في كل شيء». أما جاستمان، المتهم، فتقوم نظريته على أن تشابك العلاقات البشرية تحديدا هو الذي يجعل من الممكن ارتكاب جرائم لا يقدر على كشفها أحد. لقد عاشا، منذ شبابهما حتى كهولتهما، متواجهين في تحدّ لا يكلّ. حتى أن المتهم عمد إلى ارتكاب فعل جرمي مرّات عدّة ليثبت لندّه أنه غير قادر على كشفه ومن ثمّ النيل منه ومحاسبته. «لقد قبلت على نفسي الرهان الجسور بأن أرتكب جريمة في حضورك، دون أن تتمكّن من البرهنة على هذه الجريمة» يقول جاستمان مخاطبا ندّه المحقق في زمن ما كانا مترافقين في تركيا، التي سبق أن أقاما فيها. الآن، في هذه الجريمة الأخيرة، يقفان متواجهين، كأنهما في يوم الحساب الذي يرى المتهم فيه أنه سبق غريمه وأن هذا الأخير لم يتمكن من اللحاق به.

الدليل على ذلك أن المحقّق يعاني من وجع دائم في معدته، وأن العملية الجراحية لن تتيح له، إن قَبِل بإجرائها، أن يعيش لأكثر من عام واحد، ثم أنه، وهذا ما يُعدّ آخر المطاف بينهما، سيفشل مرة أخرى في هذه المواجهة الأخيرة، حيث سيخيب توقّعه حين يعلم بأن مرتكب هذه الجريمة الأخيرة ليس جاستن.

أما من سيتبيّن أنه مرتكب الجريمة الأخيرة هذه فهو من بدا، في مسار الرواية، الأكثر حماسة لكشفها. هو الشرطي شميدس الذي قتل رئيسه من أجل أن يحلّ محلّه. وهذه هي المفاجأة الأخيرة وقد عاد بها الكاتب دورنمات إلى السياق البوليسي العادي، حيث يكون القاتل هو الأبعد في الاحتمال.

في تقديم المترجم سمير جريس للرواية يذكّر بتساؤل دورنمات، في كثير من أعماله، عن «كيف يستطيع الفنان أن يبدع في عالم متخم بالثقافة؟». أما جواب دورنمات، لنفسه، فهو أن يكتب روايات بوليسية «وأن يُبدع الفن من حيث لا يتوقّع أحد».

«القاضي وجلاده» رواية فريدريش دورنمات، نقلها عن الألمانية سمير جريس في 133 صفحة، سنة 2023

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي