«حكايات الزمن الضائع»… وليس كل ما يُعرف يقال!

2023-05-09

عامر هشام الصفار

صدر كتاب «حكايات الزمن الضائع» لعبد الواحد لؤلؤة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في طبعة أولى عام 2020 فتصدّر غلافه العنوان المكتوب بالحبر الأزرق الغامق، ليكون معه عنوان ثانوي بحبر أزرق أخف وقعا من العنوان الرئيس، فإذا بنا نقرأ العنوان الرئيس «حكايات الزمن الضائع» ثم «كذب الروائيون ولو صدقوا» ثم «لكن هذه الصفحات ليست رواية» فإذا هي حكايات جاءت على 138 صفحة من القطع المتوسط، أرادها المؤلف لؤلؤة (الناقد والمترجم) حكايات صادقة، تخفي الأسماء الحقيقية للأشخاص والأماكن، وتترك الباقي أمام اللبيب الذي لا تغيب عنه الإشارة، مذكّرا القارئ، أن هذه الحكايات لم تكتمل دون أن يشارك بها متمعنا ومستذكرا، وليس قارئا حسب.

فهي دعوة من الكاتب لأن يستمر فعل الحكي باستمرار استرجاع ذكريات الزمن الضائع الماضي، فإذا بالكاتب الروائي (وإن أصر على أنها الصفحات ليست برواية) وبضمير متكلم يلتقي بقرينه صاحبه أبو غايب، فتتطارح الشخصيتان حكايات الزمن العراقي الضائع في فصل أول جاء في 95 صفحة، وبفصل ثانٍ وثالث جاءا على 20 صفحة لكل منهما، ثم بفصل أخير جاء على ثمانية صفحات فقط. وهكذا نقرأ ونسمع ونشارك الراوي (ابن الموصل) وصاحبه أبو غايب البصراوي حكايات الأربعينيات العراقية، وهي ترسم صورة للسياسي المنافق مثلا. قال أبو غايب «من يومها أدركت أن السياسة والسياسيين ضحك على ذقون المساكين من أمثالنا». ثم تستمر حكايات السيرة والمؤلف من مدينة الموصل الحدباء ولادة، لنقرأ عن فسيفساء المجتمع الموصلي، وكيف أن الموصل مدينة إسلامية جدا، لكن بلا تعصب. فنتذكر كنيسة السريان التي يجاورها جامع، وغير بعيد منه كنيسة الطاهرة، حتى نأتي إلى حكاية مأذنة الجامع الكبير الحدباء وكيف تم إصلاحها على يد البنّاء الشهير عبودي الطمبوغجي. وتتناسل الحكايات عن زمن ضاع.. وهي حكايات وشخصيات وأحداث فيها الدلالات والمعاني. ومن ذلك حكايات شاهد عيان على حركة رشيد عالي الكيلاني في عام 1941، وكيف إن كراهية المستعمر الإنكليزي قد تغلغلت في صفوف المجتمع العراقي في سنوات الأربعينيات، ثم حكايات عن زعامات عراقية حكمت البلاد بعد عام 1958، لتستمر السياحة التاريخية عبر حكايات الزمن الضائع، فنقرأ عن الجالية اليهودية في الموصل والبصرة، وعن ساسون حسقيل أول وزير مالية في حكومة الملك فيصل الأول في أوائل عشرينيات القرن الماضي، وكيف أنه، أي حسقيل، كان من الشخصيات المحترمة في الأوساط العراقية.

ويمتد حديث الذكريات في السرد فيستمر الحكي بين الراوي وصاحبه أبو غايب (القرين الروائي) لنقرأ عن تأسيس كلية الآداب في بغداد، ثم كيف أن عالم الاجتماع العراقي علي الوردي قد شارك يوما في عمل شعبي لتنظيف وكنس مدخل الكلية الطويل مع مجموعة من الطلبة. ثم نقرأ أن مسيرة احتفالية أرغم عليها أساتذة الكلية محرجين، فإذا بالراوي يستذكر مرافقته لمصطفى جواد (اللغوي العراقي المعروف) حيث سار معه «يحدثني أحاديثه اللغوية التاريخية الطريفة، فلما تجاوزنا بناية وزارة الدفاع وعبرنا موقع طوب أبو خزامة قال مصطفى جواد أنا تعبت وعطشت». ولم ينس الراوي (وهو جامعي) من أن يتطرق إلى حال التعليم في الجامعات العراقية، فيروي الحكايات التي قد لا يصدّقها القارئ. قلت يا أبا غايب هل إنت متأكد من صحة ما سمعت وقلت؟ يا أبا غايب هذه القصص محزنة. ويستمر الصحافي أبو غايب في الحكاية، فإذا بالزعيم (عبد الكريم قاسم) يخرج خلف الموصلي عبد الجبار الجومرد (وزير خارجية العراق بعد عام 58) وأنحنى ليقبّل رأس الوزير الغاضب تعبيرا عن طلب الصفح والاسترضاء. فمَنْ من المسؤولين اليوم مَن يتصرف بمثل هذه الأخلاق الكريمة؟ يتساءل الراوي.

وينتقل الحكّاء في فصله الثاني ليسرد عن أيامه في الخليج العربي، وهي حكايات فيها ذكريات عن أيام قد يرغب بعض أبناء جيله الإحاطة بها، فلعل فيها من الدروس والعبر بعض ما يفيد.. وهكذا نقرأ عن مديرية الميناء في البصرة، وكيف أن الراوي (الروائي) كان قد عمل مدققا لغويا في المديرية، بدلا عن الشاعر المشهور بدر شاكر السياب، الذي سبقه في هذا المقام، حيث سرعان ما غادره.

ونقرأ عن ميخا ومستر جورج وتزوير الحسابات.. كما نقرأ عن كيف أن الإنكليز كانوا قد وضعو تمثالا نصفيا للملك فيصل الأول أمام باب دورة المياه والمغاسل.

ولعل حكاية تأسيس جامعة الكويت في أواسط الستينيات وطلب أمير الكويت من الرئيس العراقي بداية عام 67 مساعدته في استمرارها تعتبر من حكايات الشاهد على التاريخ، خاصة في ما يتعلق بسلوك العاملين في الجامعة من أساتذة وطلبة في ذاك الزمان.

وتظل الحكايات معنا لنصل في استشراف الماضي إلى أوروبا وماليزيا وجامعة أوكسفورد، حتى يقول أبو غايب لقد استعرضنا ذكريات مؤلمة أكثر مما استعرضنا من ذكريات مفرحة، لكن هكذا هي الدنيا.

ولا بد للقارئ بعد ذلك وهو ينهي قراءة «حكايات الزمن الضائع» من أن يلاحظ اللغة السهلة اليسيرة التي كتبت بها هذه الحكايات، والأسترسال وفعل الحكي لتأثيث فضاء السرد بما بقي راسخا في ذاكرة تعرف أكثر مما قالته. فهل من مزيد من حكايات الزمن الضائع بقلم عبد الواحد لؤلؤة؟

لقد أحسن الكاتب بنشر حكاياته على الملأ.. ورغم أن القارئ لم يعرف عبد الواحد لؤلؤة ككاتب قصة أو رواية، بل مترجما للشعر، وناقدا أستاذا أكاديميا، إلاّ أن حكايات زمنه الضائع هذه تثبت أن له في مجالات السرد قلمه الذي يمتع القارئ ويفيده. ولعمري فهذا هو المأمول والمتوقع والذي يطمح إليه القلم الخبير.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي