ديوان «المقر الجديد لبائع الطيور»: من الرميم إلى الترميم

2023-05-08

محمد علوط

قرأت العمل الشعري «المقر الجديد لبائع الطيور» لعمر العسري مرتين متعاقبتين، ثم طويت الكتاب، ونسيت كل ما قرأت.

هذه كتابة شعرية تقرأ بـ(النسيان)

إنها تضع القارئ في مواجهة «تعاقد عسير» وهو اصطلاح للناقد صبحي حديدي، مع إضمارات نوايا مبيتة تخص المجانسة الدّلالية بين وصف (عسير) واسم الشاعر (العسري).

الرحم المنجب لهذا التعاقد العسير، واستعارة حبله المشيمي نهتدي إليهما في:

(أحرس

مقبرة مهجورة

تنعق بداخلها غربان الشعر)

كل نسيان هو مقبرة مهجورة: صاح هذي قبورنا تملأ الرحب // فاين القبور من عهد عـاد (المعري)

المقبرة ليست (سور الماوراء): بل هي سيميائيا (المكان البرزخ) لبروز الكلمة الشعرية بما هي أثر نسيان: احتجاب في الغياب الآهل بالمعنى انطفأت كما ينصص على ذلك الشاعر في التشذير27 :

(بريدك،

تآكلت حروفه

وأضواء الفنار

في عين بخار شارد)

أما القرينة الاستعارية الواردة تنعق في داخلها غربان الشعر فعلينا أن نتجشم عناء السفر إلى كون شعري مواز لأهم منجز نصي في الشعر المغربي اشتغل على رمزية «الطائر/ الغراب» وهو بالطبع «شذرات نائية من كتاب الغربان لمبارك الرّاجي، نقرأ منه الإيراد التالي:

(أقول في بركة الماء النرجسية

هكذا أريد وجهي غرابا

وأعماقي غابة عالية.

هيا تكلم أيها الغراب.

فيما أنا أنعق)

المسافة الاستطيقية / الرمزية بين غربان الراجي وغربان العسري هي بلغة استعارة الكتابة بالنسيان: المعادل الموضوعي لتغيير المقر الجديد لبائع الطيور.

والإقامة كـ(مسكن شعري (برازخي): ترحل في جغرافيات وأقاليم المعنى الشعري، ونسخ لروح الطائر/ الغراب المقيم فوق جدار القيامة إلى روح طائر مهاجر يعبر بأجنحته الفضية اللانهائية مرايا العود الأبدي. في شعرية الكتابة بالنسيان لدى عمر العسري تحفل نصائية العمل الشعري بمجازات (الأثر الغائب) لا كمحفل لذاكرة الحضور والامتلاء (كما هو الشأن في تناص المعارضة).

بل ككتابة» «بيضاء» تستدعى الصمت لتحرّر المعنى الشعري من سديم وكثافة التكرار، وتستدعي الغياب، ذلك النص المبهم المجهول لصوت الكينونة الشعرية، وتستدعي الفراغ لتمنح الكلمة الشعرية مسكنا في العزلة التي تؤسس للامتحيز واللامتعين واللامدرك. مسكنا أو مقرا جديدا (سيان) ما دام جوهر الشعري (Le poétique) يكمن في العبوري: العبور كطقس مجازي لتخلق الدّلالة الشعرية في مشاكلات الأثر البرزخي، لا ككلمة نهائية، بل كهيروغليفية أولى لتشكل الأسماء والعناصر المعمدة بشرارة البدء:

نقرأ التشذير الـ 46 :

(هل ما زلت بائع الطيور

القادم من بابل

هل أشرقت روحك

كالأساطير في هذا الشارع المكتظ

في هذه المدينة السوداء

هل غبت هناك

وانبجست هنا)

 اقتفاء الأثر

الموت هو أحد الأصوات الشعرية القوية الأثر في المقر الجديد وتتعدد صور إبدالاته الاستعارية في هذا المتن الشعري خالقة دينامية شعرية لمسار ذاهب من حدّ الرّميم) إلى حد (الترميم). يستوقفنا النص الشعري الحامل للعنوان «حياة في طور الترميم» الذي على شاكلة المجاز الاستعاري لدى سيلين يجعل من السقوط استعارة ظلية للموت:

نقرأ من هذا النص ضمن التشذير 71:

(أم غدوت نايا وحيدا

يسقط خفيفا

مثل ريشة هدهد

فكيف أصالح

بين النفخ

والسقوط)

والمعنى هنا يرسم مدى لجغرافية ورمزية طرفاها الموت والحياة والسقوط يستعيد، هنا، استعارة ظلية أخرى للموت وهي الخراب، الواردة في التشذير 25.

(يطأ جبال الخراب

بجراب فارغة

والغيم سقفه

والمستحيل نشيده)

من (الرميم) المتمثل رمزيا في الخراب والسقوط إلى (الترميم) المتمثل رمزيا في ميثية النفخ كنشأة وتلوين ونشدان وجود رمزي، في ما وراء الخراب كعدم واستحالة تنهض إسراءات القول الشعري ككتابة فجائعية بتعبير موريس بلانشو، لا تقوم على عودة المثيل ومطابقة الأنساب، بل على ترميم الفقدان ونسيانات الأثر، ومجازات التغيّري:

يقول الشاعر في التشذير 74:

(هل قدري

أن أسمو كرجل بلا صفات

يرتق ثقب الوجود

کخیاط يملك إبرة الخلود

لن أدعها

تخطيط ابتسامتي

لن أقبل سوى

بحياة جديدة)

يدين عمر العسري كل أشكال الكتابة العمياء سجينة (مرايا نرجس) وهو بحسه النقدي الذي يجعله متواريا خلف سجف المجاز الشعري، يؤشر إلى ذلك في عنوانات النصوص:

– تمثال من فراغ – المقر الجديد لبائع الطيور- منديل أبيض مضرج بالفراشات الميتة – مسافة نار بين الطين والخزف – رجل محبوس في أناه – أحلام معطوبة في مقبرة السيارات الصدئة – حياة في طور الترميم.

فكتور إيرونيم ستوييكتا في كتابه: موجز»تاريخ الظل» يقول إنه باستثناء أوفيد في (التحولات) فإن السطوع المشرق للانعكاس المرآتي في أسطورة نرجس جعل أغلب الفنانين سجناء الصورة/ الانعكاس، في ذلك الجزء الذي لا يعرف فيه نرجس ما يراه، أي أنه هو ذاته، هناك في الجانب الأقل ضياء للظل ، الظل بما هو هامش شك ، ماذا لو كان هذا «الظل» «آخر» (Autre)؟

عمر العسري يتمثل هذا التفكيك لأوهام الأنا الشعري كـ(انعكاس نرجسي) باشتغاله على مجازات غيرية الظل: أثر الظل وظل الأثر ولنصغ إليه يقول ذلك على طريقته في « شعرية التعاقد العسير»:

(أبتل بماء أخضر

سأمرر يدي هناك

وأدع الصمت يحاصر أناي

أشهق خلف مغارة باردة

يفوح عطرها بعيدا

لم يعد ثمة مبرّر للمضي خلف الجماجم خطأ المارين لن أكرر

لم يعد ثمة مبرر

للرجوع خلف الياسبة

لن أكرر

صواب الأجداد) التشذير 29.

في محكي النص القرآني يقال إن طائر الهدهد كان مبعوث نوح ليدله على اليابسة بعد الطوفان، الأرض الموعودة لحياة أخرى جديدة. كذلك شأن طيور عمر العسري: إنها ليست طيرا أبابيل، ولا طائر الرخ، ولا غراب قابيل وهابيل، ولا هدهد سليمان، ولا عنقاء حيث لا رماد، ولا إيكاروس حيث لا شمع، ولا طائر فريد الدين العطّار، ولا طائر السمسمة لدى بلحاج آيت وارهام، ولا مالك الحزين في ديوان (سماء خفيضة للمهدي أخريف، ولا طائر التم لنبيل منصر…

إنه طائر Le haut langage طائر منذور لأن لا يحط فوق خراب اليقين والجاهز وسراب الوجود. إنه طائر لا يرهب فزاعات حقول الطمأنينة السادرة في الغيّ. هو في النهاية طائر الكينونة المترحل بين (الزميم) و (الترميم).

عنه يقول الشاعر:

(سأفسر تحليقي

بما تبقى من ريش الجناح)

كاتب مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي