لعبة التهجين السردي في المجموعة القصصية «لاعب الظل»

2023-04-29

رياض خليف

يشمل التجريب القصصي المتخيل السردي أيضا، فالسرد يمزج الخطابات والمواد بحثا عن نص جديد يكسر الرتابة. فلم نعد نتحدث عن خطابات واتجاهات صافية، لكننا نعثر على خطابات مهجنة تبني جمالياتها على اختراق الوحدة وتنويع اتجاهات الكتابة، فيمتزج الواقعي بالرومنطيقي أو الأسطوري أو السريالي أو الغرائبي، ويتخذ الفعل التخييلي اتجاهات مختلفة.

في هذا الأفق تنحو عواطف محجوب إلى صياغة أقاصيص مجموعتها «لاعب الظل» الصادرة عن دار مومنت، غير متعالية عن الواقع أو متناسية له، بل منغرسة فيه وفي أعماقه. وفي الوقت نفسه غير خاضعة لرتابة المادة الواقعية، مقحمة بذلك ألوانا مختلفة من التخييلات مثل الحلم والأسطورة وغيرهما. فهي تمارس تهجينا تخييليّا وهو ما يميل إليه السرد المعاصر، فالمرجعي اليومي في هذه المجموعة، مختصر ومنزوع من سياقه وزمنه وتفاصيله الأولى، تنشئ له الكاتبة تفاصيل جديدة، تنسجها من عوالم أخرى، فيصبح بدوره مجرد أصداء تتردد.

أصداء المرجعي:

تبدو المجموعة في حقيقة الأمر نصوصا تخييلية، متفاعلة مع ما عشناه من أحداث سياسية واجتماعية في تونس خلال سنوات الثورة، تقحمها الكاتبة بطريقتها الجمالية.. (واقعة البوعزيزي، مغادرة الرئيس بن علي، أحداث متحف العبدلية، التفجيرات، إحراق بعض الأشخاص لأنفسهم ومنهم، كاتب ومراسل صحافي في السنوات الأخيرة الموالية للثورة، حوادث غرق المهاجرين في البحر.. وكذلك أصداء حكايات اجتماعية عن المحتالين والمشعوذين).

هذه الأرضية التاريخية المرجعية شكلت منطلقا للتخييل القصصي في أغلب هذه الأقاصيص، لكن الكاتبة تتجاوز الوجه المرجعي لهذه الأحداث وتفاصيله، فلا تبدو منه غير أصداء أو طروس إذا عدنا إلى مصطلح جينيت، فهي تضخّ في سردها لهذه الأحداث شيئا من خطابات أخرى قديمة، فهذا المرجع يلتحم بالأسطوري والعجائبي والتاريخي، وغير ذلك من الخطابات التي تشكل ملامح التغريب السردي.

استدعاء الأسطوري

يتصدر المتخيل الأسطوري الخطابات التي تستدعيها الكاتبة، مقحمة مجموعة من الشخصيات الأسطورية من آلهة قديمة وغيرها في سرد الأحداث، على غرار تيامات وبرومثيوس وايزيس. فها هي تيامات إلهة البحر تشهد واقعة غرق المهاجرين في شواطئ جزيرة قرقنة: «رأت تيامات عشرات الأجساد مستسلمة، تطفو تلهو بها الأمواج ويلفها سكون الموت، وأخرى ما زال أصحابها يعافرون من أجل الحفاظ على الرمق الأخير للحياة فيهم. هالها المنظر البشع وجزمت أن مردوخا (قاتل تيامات في الأسطورة) قتل هؤلاء. تأكدت بأنهم حراقة هربوا من التهميش طلبا لحياة أخرى أفضل في الناحية الأخرى من العالم». وفي الأسلوب نفسه تقحم الكاتبة يرومثيوس إله النار ليشهد حادثة إحراق مراسل صحافي لنفسه في مدينة القصرين في السنوات الأخيرة: «رددها بحزن ومرارة وقد اختلط صوته بصراخ الرجل المشتعل وصرخات الناس في ما حوله بكى برومثيوس بشدة وهو الذي لم يبك يوما حتى حين كان يأكل النسر كبده». وتمزج الكاتبة بعض الأحداث الأخرى بشيء من العجائبي، مثل مزج حريق البوعزيزي بالحديث المسبق للشخص في منامه. «لم أفق إلا وماء بارد ينضح وجهي وصوت بعيد جدا يناديني. يجعلني أطفو نحو اللاشيء وأتخبط بلا هوادة وأصرخ من أعماقي.. «إنها تحترق أطفئوا اللهب. ستختفي المدينة…» يومها وبعد وقت انتشر نبأ البوعزيزي يضرم النار في جسده وعمّت الفوضى أرجاء العالم».

في هذا الإطار المصطنع للأحداث توظف الكاتبة فضاءات العاصمة وتشخصها فتستعيد بذلك شخصيات تاريخية قديمة. فيقترن الحديث عن مغادرة بن علي لتونس عقب تلك الأحداث، باستدعاء ابن خلدون ويسوع وجعلهما يتحاوران ويشهدان ما جرى ويتساءلان حوله، وقد تكون خريطة العاصمة التونسية قد سهلت هذا الاستدعاء وهذا الحوار المتخيل بينهما.. «هنالك في آخر الشارع الكبير انتصب يسوع يحرس كنيسته في جموده المعهود، بينما انتصب ابن خلدون مرتديا برنسه الذي يحميه من برد الشتاء» ومع حوارهما «صيحات عديدة تكسر صمت الشارع وطلقات عشواء تتالى: «أتسمع صوت الرصاص أترى تلك الأسلاك الشائكة والدبابات، لقد أعلنت كل الشاشات عن هروب الرئيس؟».

لاعب الظل؟

هكذا تبدو عواطف محجوب حريصة على تغريب النصوص وإخراج كتاباتها للمرجعي من الرتابة، معيدة كتابة ما جرى بطريقتها، مضفية عليه خطابات مختلفة ـ كاسرة الإيهام، فالأدب لا يكتب المرجعي، بل يطوعه ويعثر له على الصياغة الجمالية المناسبة. فهل تصبح الكتابة السردية للمرجعي كتابة ظله حسب؟

يطرح هذا السؤال تفكيرا في عنوان المجموعة الذي لا ينتمي إلى العناوين الداخلية للمجموعة، فيصبح عنوانا جامعا، ودافعا لنا للبحث عنه وعن مشروعيته وعن إحالاته في هذه المجموعة التي تبدو عتباتها مثيرة لأسئلة الكتابة.

من يكون لاعب الظل؟ فلا عنوان ولا شخصية في المجموعة تحمل هذا الاسم؟ هل هو السارد وهو يقص علينا هذه الحكايات؟ واي ظل قد تعنيه المؤلفة؟ هل هي ظلال الأحداث؟ هل هي ظلال تلك القصة المعنونة بثرثرة الظلال والتي تتحدث عما نسميه بالثورة؟ وهل أن الكاتبة بدورها تشهر السؤال الكبير عمن يقف في الخفاء وراء كل هذه الأحداث المرجعية، ممارسا لعبته؟ تلك أسئلة تظل تطوف حول هذا العنوان وحول الخطاب الدلالي لهذه المجموعة التي تقف في منطقة المسكوت عنه والموجع والمبلبل، وهو مجال آخر يمكن تناوله ودراسته.

كاتب تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي