رواية «خيط البندول» للسورية نجاة عبد الصمد: نص ينتج مقولاته

2023-04-29

جبر الشوفي

«خيط البندول» ليس مجرد عنوان لرواية تضاف، بل إنه عتبة لولادة نص حديث للحياة وفي فلسفتها وحكمتها وفي ارتقاء كاتبته نجاة عبد الصمد بالأمومة إلى مستوى أعلى من مجرد ولادة، وإلاّ فسيكلفها الحرمان منها صراعاً ضارياً، يحتشد فيه الزوجان نداء وأسامة والطب في جبهة خاسرة، ويستوي الرحم المستهدف منتصراً بضعفه (عقمه) بعد خوضهما معركة بحث ضارية في سبيل الحصول على طفل بوسيلة بديلة واستنفدا كل الوسائل المتاحة ليخرجا بمعادلة صفرية، منهكين مادياً ومعنويا، ثم ليقول أسامة: كفى! وعبر مراجعة لمسارهما الشاق والمكلف، كان التصالح مع الذات، والاعتراف بالفشل مشفوعاً بما قدماه بصبر وثبات، وتُوجت نداء بطلة تراجيدية في صراع وجودي، وحيث البطولة في الثبات والإصرار على المواجهة، أما الانتصار فليس شرطا لازماً من شروط البطولة.

«خيط البندول» لعبة تبصير بخيط ومسمار، وزعت حظوظ أربع فتيات، ينتمين إلى ثقافة المجتمع الأهلي في مدينة (زعفران). فريدة رسبت وسالي أيضاً وتزوجت و(انشغلت بالحمل والأطفال) وكاميليا ذهبت إلى كلية الفنون في العاصمة، أما نداء الأكثر تميزاً فقد شاكسها خيط بندولها فتجاوزته وذهبت إلى شغفها بالهندسة المعمارية ثم تزوجت وتعرضت لطارئ صحي، حرمها من إمكانية الحمل، فانخرطت في سيرة كفاح مرير لتحصل على طفل عبر الزراعة، ولما أعيتها الحيلة وعجز الطب عن تثبيت حملها بعد عشرين محاولة دامية، وعرض عليها القدر تبني الطفل (آدم) الذي وُلد في عيادة زوجها أسامة وكتم سره بحكم القرابة، لأنه ثمرة اغتصاب الطفلة نور 14 عاماً ابنة قريبته الصيدلانية بشرى. وبعد التشاور بينهما واستشارة الطبيب الحكيم (مختار) حول ما يمكن أن يترتب على التبني من مسؤولية ونتائج سلبية، قررا تغليب العقلانية على العاطفة والتحرر من هواجس الولادة وتسليم الطفل لأيد غريبة، بعد أن قضى في رعايتهما عشرة أيام وتعمق حبه في قلبيهما، وبهذا القرار تأهلا لبعث الحب بينهما، بعد أن غيّبه الانشغال بمتابعة هم الإنجاب وليعيشا حياتهما كما ينبغي لها أن تكون.

فالخيط إذن هو شيفرة العنوان (كوده) الميتافيزيقي المفضي إلى بؤرة سردية مركزية، تبث مقولاتها وحدوسها، وتؤكد استنتاجاتها من خلال الغوص في شبكة واسعة من علاقات مجتمع ريفي انتقالي يشبه بثقافته وطبيعة تفكيره أكثرية مجتمعاتنا العربية التي تهرب من واقعها إلى استنطاق المتخيل الطوباوي، عله يخرجها مما تركه الإحباط والفشل المتكرر من مساحات خاوية في حياتها وواقعها اليومي المعيش. ووفقاً لهذا المبدأ، قدمت رواية «خيط البندول» نصاً بحثياً تنويرياً، يستكشف مقولاته ويحقق خلاصاته ورسائله القيمة، فبطلته الرئيسة نداء النائبة عن الكاتبة والتي آمنت بحقها في الفوز بطفل ومن أجله قدمت التضحيات الجسام، فازت باكتشافها لذاتها ولضرورة تحرير إرادتها من الوهم والحلم، بعد مسار عسير من التجريب المنهجي المتكرر، لتذهب بعده إلى تثبيت ما استخلصته في رسائل حكمة جليلة، مفادها، إن التجربة ثمينة وبطولية لكن الأثمن منها ومن هوسها بالولادة، أن تعيش مع زوجها للحب، بوصفه قيمة جوهرية للإنسان، مجرداً من صفة الأمومة أو أي صفة أخرى!

تلك هي الراية التي أشهرتها الكاتبة، ومضت بها إلى جانب آخر من البطولة المعتادة؛ إنها تجربة كفاح أنثوي وجودي شرس، يتوافق مع عصر المرأة ويصب في مواجهتها لأي عطالة بيولوجية أو فيزيولوجية، والدفع بها لسد النقص في هذا الجانب الحيوي من حياة المرأة الأم، ليس لأن الأمومة مسار ملازم لوجودها التقليدي الاجتماعي، ولا لأن الأطفال أقنوم التجدد وبهم تتزن الذات والموضوع فحسب، بل لأن الأمومة كما أرادتها الكاتبة ليست معضلة أنثوية فردية، بل إنسانية عامة.

ومن هنا مرّ الرفض المعلل لتبني الطفل البديل آدم عبر تمزق داخلي حاد بين توهج عاطفة الاحتضان والانتصار للواقعي والبراغماتي، والاعتراف بأن النقص أقنوم الحياة وأنها لو اكتملت لانتهت، ومن هذه المعرفة المكتشفة اختط أسامة ونداء سبيلهما للتصالح مع الذات، ولعودة حياتهما إلى سكتها الطبيعية، بعد أن تعمدا على أجنحة حلم، يعيش تعثره وارتدادات تكسّره في خطاً مدماة، ونفس مرهقة وجسد متهالك، وكفى التي أعلنها أسامة جاءت مقولة اكتشاف، تعني لقد استعصت علينا ولادة طفل، لكننا ولّدنا الطفل الأجدر بالحياة، إنه طفل الحب وفي أن يكون» كلّ منا طفلاً للآخر» .

هكذا ترتقي الكاتبة نجاة عبد الصمد في البحث مع كتاب الصف الأول، لتؤكد أن الرواية هي «ميتافيزيقيا العقل» وأن مقولاتها التنويرية هي اكتشاف في اللغة وعبر سردها المنقّى من الحشو واللغو والإسفاف. ومن أجل استبدال الذاتي بالموضوعي، تنحّت بتواضعها عن رواية معاناة، تفضي إلى بطولة، وتركت لأسامة زوج نداء وشريكها في المعاناة والأقرب إلى روحها ووعيها، أن يكمل شروط الوكالة عن زوجها الواقعي، فيروي حكايتها رواية من يعيش كل دقائقها وتفاصيلها فيستخلص من التجربة خلاصات الحكمة والقيم العليا، حيث لا قيمة أخلاقية في الرواية أعلى من قيمة المعرفة ودقة معلوماتها وما تنور به قراءها. وقد ترسم النص «خيط البندول» الروائي أدواته السردية بحساسية وجدانية وحرَفية، توزعت بين الحكي والوصف والحوار والمنولوج وتوارد الخواطر واللاشعور، ونسجت خيوطه السردية عبر أسامة المتحدث بموضوعية عن معاناة زوجته، بل معاناتهما، ومن خلال الاشتباك مع ثقافة مجتمع أهلي، يتجاذبه الطموح إلى الحداثة ومواكبة العصر، ويشده التقليد والإرث الثقيل الراسخ في وعيه ومجمل علاقاته. أما أبناؤه فهم عصاميون يجترحون واقع عيشهم المرير ويتعربشون على أكتاف العاصمة والاتحاد السوفييتي (الصديق) للدراسة ويتخرجون أطباء ومهندسين في تلك الفترة الزمنية التي تخرجت بها الكاتبة طبيبة نسائية، وخبرت مجتمع الأطباء من داخله، وعاينت مستوى وعيهم وسلوكهم المهني والأخلاقي وما يشغلهم من مشاغل الحياة اليومية والمهنية، وصولاً إلى نقابات تسيرها أجهزة السلطة وتتبنى الطبيب الأكثر طواعية وتابعية، فتكشف بذلك عورة النظام الديكتاتورية في بلادنا.

الدخول في «خيط البندول» يعني مجاراة الكاتبة المنشغلة بهاجس التنوير والتغيير، عبر إضاءات، تتجلى كحقائق وحكم مستخلصة من نمو ديناميات السرد ومآلاتها وعبر التقاطع والتفاعل بين الأفراد والأحداث في فضاء الرواية الزمكاني، وصولاً إلى اصطدامهم مع تقليديات مجتمعهم الأهلي. إنها الساحة التي اختصت بها الكاتبة وبلورت عبرها هويتها الكتابية كباحثة في كنه الخلية الاجتماعية عمقاً واتساعاً، مذ أطلقت روايتها «بلاد المنافي» 2010 ثم «لا ماء يرويها» 2017 واختصت بالكتابة الموسوعية في القاع الاجتماعي الإنساني. وفي متابعة مشروعها والبناء صعداً عليه جاءت بروايتها «خيط البندول» الصادرة هذا العام لتنقب في حيثيات مجتمعها بحثاً واستقصاء بهدف إخراجه من ارتهانه لتقاليد وعادات وثقافات قارة، تحد من استقلالية الشخصية وحرية الإرادة والضمير، وزوادتها من تجربتها ما نسبته للدكتور مختار: «يتساءل عشاق القراءة ونقاد الأدب عن غرابة الهوى بين الأطباء والكتابة، بينما الغريب ألا يكون الأطباء جميعهم كتاباً وشهوداً، وهم شهود الحكايات الأثقل من صخرة موسى… لو سرقت سجلات عياداتنا أو تفككت شيفراتها لتحطمت قلوب وتقوّضت أسر.»

ورغم أن حكاية المهندسة نداء، هي أس الرواية وحبلها الشوكي الرابط بين أحداثها وسير شخوصها، إلا أن الرواية ظلت أبعد من أن تصنف في الأدب النسوي، وذلك لأن الكاتبة الهاجسة بالعدالة، أقامت علاقة متوازنة بين شركاء الحياة ووزعت بينهما الخير والفلاح والشرور، وأهلت شخوصها ليكونوا نماذج ورقية (افتراضية) ويعكسون في سلوكهم الواقعي وأنماط تفكيرهم وتفكيرهنّ آثر البنية الفوقية في مجتمع يراوح بين الفضيلة والرذيلة ويكتسب زاداً كافياً ليعبر عن ثقافته العميقة الغور وليتعايش مع الآخر المختلف عنه بالقليل من المتمتع بالحد الأدنى من حق الاختلاف. أما الحرية في النص فتأتي نتاجاً لحوار متكافئ بين فلسفة النص والواقع وعبر ارتياده لعوالمه البكر وتقصي الحقيقة ـ صنو الجمال- وفي الربط المنهجي بين النتائج وأسبابها، وأهمها أن الوعي الذي قرض نسيج العلاقات التقليدية من حياة المرأة الرائدة بنفسج، كان هو سلاحها الأهم في الدفاع عن قرارها وحريتها في رعاية أولادها، وفي مواجهة جدهم ومن خلفه جيش من الأعراف والتقاليد والقوانين، ولتنتصر لكن لحرية اجتماعية مشروطة، وضعتها في مأزق أخلاقي ونفسي واجتماعي حرج، خرجت منه بـ(معاهدة الضرورة) المتعادلة بالخسارة والربح بينها وبين جد أولادها الممثل لثقافة ضاربة في عمق الوعي المحيط. واضطرت لقبول شرط الجد بالزواج من ابنه فؤاد، عم أولادها، لكنها تحوطت سراً بالذهاب إلى دكتورها النسائي وزرعت عنده لولَباً مانعاً للحمل، وحين طلب منها أن تأخذ موافقة الزوج، أجابته بلغة بليغة باترة:

هو الحال لا أريد من هذا الزواج أولاداً. سأقاتل برحمي عن أولادي

سيصير زوجك وإن لم تخبريه فأنت تخدعينه

زواجي منه هو الخدعة، وجئت إليكَ لأكمل ما نقص من معاهدة الضرورة.

إنه الواقع الذي يضطر أناسه إلى الالتفاف على شروطه القاهرة بطرائقهم الخاصة، وهو ما يترك في مجتمعاتنا سبل التحايل مفتوحة لسد ثغراته القانونية والأخلاقية.

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي