المرجِع والمتخيل في «زهر القطن» لخليل النعيمي

2023-04-26

أحمد عزيز الحسين

يمكننا الزعم بأن الصورة السردية المُشكلة في نص (زهر القطن) لخليل النعيمي (المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت- 2022) انعكاسٌ لشيء مادي محسوس موجود في الواقع الموضوعي، غير أنها ليست الشيءَ نفسه، بل هي الصورة بعد أن انعكست في مصفاة ذاتٍ معينة، وتجلت بآلية محددة لها علاقةٌ بهُوية هذه الذات، ولذا تختلف الصور المنعكسة في مرآة الذات من شخص إلى آخر، وتتجلى بآليات مختلفة لها علاقةٌ بخبرة الذات الجمالية وحساسيتها البصرية، وتفقدُ الصورةُ المنعكسة في مرآة الذات (موضوعيتها) في ارتباطها بالواقع الخارجي الذي تُحِيل إليه، وتنزاح عنه، كما أن «العين ترى ما تود أن تراه لا ما يمثُل أمامها» كما يقول غي غوتيي، وهي محكومة، في رؤيتها، بوضعها النفسي، ووعيها الجمالي، وخبرتها الحسية، وظروف الزمان والمكان التي تحيط بها، ولذا فإن كل ما يُصور في العمل الأدبي والفني يفقد علاقته بالواقع المرجعي، الذي ينتسب إليه، ويغدو له وجودٌ موضوعي مستقل في النص الأدبي والفني، وينزاح عن صورته المرجعية، ودلالته الواقعية، ويكتسب دلالة جديدة في النسق الفني المتخيل، الذي يتعالق معه.

وما تعكسه عينُ الأديب من الواقع الذي عاشه في ما مضى، ليس هو الواقعَ نفسه الذي عاشه، بل هو الواقعُ الذي يراه من خلال حاضر معين؛ وخليل النعيمي لهذا لا يستدعي، في نصه السابق، ماضياً جرى تجاوُزُه بل يعيد بناءَ ماضٍ له علاقةٌ بالحاضر الذي يعيشه، إنه بهذا المعنى لا يتذكر ما مضى، بل يستدعي حلقاتٍ منه ليعي حاضره أكثر، ويتخيل صورة لمستقبله الآتي، وبهذا المعنى، أيضاً، تغدو عودته إلى الماضي ضرورية لإضاءة حاضره، واستنطاق ما يخبئه المستقبل المقبل؛ ولذلك فإن وعي الكاتب للماضي، واستعادته لوقائعه مرتبط بوعيه لحاضره، وقد يكون مرتبطاً برؤيته لمستقبله؛ ولذا لا يمكن تقييم الوقائع الموجودة في «زهر القطن» من خلال إحالتها إلى واقع محدد، بل يجب النظرُ إليها بوصفها انزياحاً عنه على المستويَيْن البنائي والدلالي معاً.

وبناءً عليه فإن صورة الحماد في هذا النص ليست هي صورته الواقعية (أو المرجعية) كما وهِم بعضُ من كتبوا عنه، بل هي الصورة التي كونتْها عينُ الكاتب ومخيلتُه البصرية بعد أن اكتسب صاحبُها خبرة جمالية محددة وقدرة على إعادة التشكيل والتكوين، وأمستْ لديه قدرةٌ على إيجاد مسافة بين ما رآه فعلا وما هو بحاجة إليه لتشكيل نص متخيل؛ ولذلك فإن استخدام الكاتب للألوان والنور وعناصر الطبيعة الأخرى في النص لا ينبثق من حرصه على الإيهام بواقع مرجعي معين، بل هو استثمارٌ لهذه العناصر في بناء صورة رمزية لها دلالاتٌ مغايرة لدلالتها الواقعية ومحمولاتها الممكنة في الحاضن الذي يُوهِم به النص نفسُه.

إن الفن، من هذه الزاوية، والصورة ضمنه، لا يستنسخ الواقع، ولا يعيد إنتاجه كما هو، بل «يأتي على ما يغطي النقصَ فيه» على حد تعبير كاندنسكي، كما أن «العين خزان كبير لصور ممكنة ينسل عندها المدرَكُ البصري إلى العين، في شكل مواقف لا في شكل أشياء» كما يقول غي غوتيي، كما أن صور الأشياء لا تتحقق، أو تتجلى في النص بوصفها استنساخاً لموجود واقعي كما يذهب بعضهم، بل تنزاح عن وجودها الموضوعي، وتكتسب هيئة وشكلا آخر يتأثر بثقافة الكاتب أو الفنان وخبرته الجمالية، وقدرته على إعادة تشكيل الأشياء، كما أن كل ما في الرواية من عناصر سردية قد يتطابق مع عناصر موجودة في الواقع المرجعي الذي توهم به الرواية، وقد يكون له موازياتُه في هذا الواقع، غير أن هذه العناصر انفصلت في النص عن مرجعها الواقعي، واكتسبت قيمتها من خلال وجودها في نصها الجديد، وحتى الوقائع التي يمكن مطابقتها مع ما رواه الكاتب في بعض حواراته لم يُؤْتَ بها بوصفها وقائعَ سيريةً، بل أُتِيَ بها بوصفها موتيفاتٍ فنية تُستثمَر لصياغة نص فني لا نص سيري، وهذا يعني أن الوقائع المُستعادة في الرواية غادرت الحقل المرجعي الذي تنتسب إليه في الأصل، ودخلت فضاء المُتخيل بوصفها (عناصر سردية) لا (عناصر واقعية)؛ ولذلك ينبغي أن تُفهَم ضمن علاقتها مع عناصر النص الأخرى، وبوصفها جزءاً من بنية النص الجديد، لا بوصفها جزءاً من سيرة الكاتب.

وإذا كان الكاتب قد خزّن في ذاكرته صوراً عديدة للمكان الذي عاش فيه خلال طفولته إلا أن ما يُستعَاد من هذه الصور تستثيره وتدفعه إلى السطح خبرةُ الكاتب الجمالية، وثراءُ مخيلته البصرية، وليس رغبتَه في توثيق حياته، أو سردَ سيرته الذاتية، وهذا يعني أن ما يُسرَد في الرواية من وقائع لا يُسرَد بوصفه وقائع سيرية، بل يُسرَد بوصفه عناصر فنية اقتضتْها السيرورةُ الجماليةُ في النص، وليس رغبةَ الكاتب في سرد سيرته الذاتية.

كاتب سوري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي