نصوص العراقي نامق سلطان… الصعب الممتنع

2023-04-25

حيدر المحسن

لا أحد يعرف نامق سلطان خارج بلده، الشاعر الموصليّ الستّيني الذي يحمل شهادة مرموقة في الهندسة، ويعمل أستاذاً في الجامعة، ويعيش في عزلة عن محيطه: «بيني وبين العالم/ بابٌ مسدودٌ/ لا أدخلُ/ ولا أخرجُ/ ولا آبهُ بما يحدث خلف الباب».

هو شاعر غائب تماماً عن الصّحافة والمنتديات والأوساط الأدبية، لكن ذاته حاضرة في ما يقول، وبصورة حميمية، إلى درجة تظنّ أنه يكتب سيرة ذاتية يتتبعها القارئ عبر قصائده، هناك حدٌّ وهميّ يفصل بين نعمة أن يكون الكلام شعراً وفداحة أن لا يكون:

«أُمّي/ حربٌ عاقرٌ/ ولدتني في أرض محروقةٍ/ وفي يدي اليمنى بندقيّةٌ قديمةٌ/ لأحرّر وطني/ وفي اليسرى نشيد طويل».

لا وزن هنا ولا قافية، لا انزياح ولا تباعد في المعنى، لا أنفاس شعرية ملفعة بالغموض، لا صور شعرية… بمعنى أن القصيدة فقيرة شعريّاً حسب المفهوم النقدي السائد، لكن مفردات قليلة وضاءة وريانة استطاعت أن تجعل المقطع يسحّ شعراً. الحرب عاقرٌ، والأرض محروقة، والبندقية قديمة والنشيد طويل. وفي بعض القصائد يخلع نامق سلطان ثوب الشّاعر ويكتب بلغة تقريرية تلغي الحدود بين الشعر والنثر، وينعدم فيها وجود أي تنويع لحني. الفصل الأهم في كتبه الشعريّة هو حديثه عن مدينته المنكوبة بالحرب، الموصل، يرسم خريطتها بالشعر، ويأخذ بيد القارئ، ويدلّه على أماكن الدمار:

«في الجانب الأيمن

الأشياءُ العاليةُ لم تعد عالية

كلّها نزلت إلى الأرض

حتى السماءْ»

الجانب الأيمن هو الموصل القديمة، حيث دارت المعارك بين «داعش» والقوات الحكوميّة تساندها قوات التحالف بقيادة الأمريكيين. يستعرض الشاعر مدينته الآمنة وقد حوّلتها نيران الحرب إلى غبار، الطين والحجر والأبواب، بسقّاطاتها الثقيلة، والنهر، رائحته وصوته، والسينمات والكتب والمقاهي والحانات… كلّ هذه الأشياء «كانت تتكلم وتغني» قبل الحرب، والآن لا يوجد غير الخيوط الواهنة، وغير الغراب:

«قلب الموصل هنا:

في باب الطوب وباب السراي ورأس الجسر»

ويمضي سلطان بتلاوة أسماء تسع وعشرين محلة، يرسمها بحروفها، ويقولها لنا بعينيه عندما يسمّرها في موضعها في القصيدة: «ومحضر باشي والنبي جرجيس ورأس الكور…» وهذا يذكّرنا بالمقدمة الطللية التي كان الشاعر القديم يفتتح بها قصيدته، والتي كانت وظيفتها أنها تنقل بشكل ما اللاوعي الجماعي نحو الماضي، لأن استمالة طاغية وحتمية تجذب الجميع إليه. عندما يكون الماضي مكتملاً يكون زمناً لا ينتهي، مثل الأبد. ويعيد هذا إلى الأذهان كيف كان كافافيس يستعيد الحضارة الهيلينية، التي لا تعيش سوى في كتب التاريخ، والتي يدرج بروحه إليها مئات السنين إلى الوراء، ليجعل الماضي يحيا من جديد، متألقاً أمامنا، بهياً وبطولياً. وبالنسبة إلى نامق سلطان فإن السلام الذي كان يعمّ مدينته المهدّمة هو الحضارة التي ينتمي إليها، والتي فقدها بسبب الحرب، ويحاول أن يعيد خلقها بواسطة الشعر:

«في (السرجخانة) التي أعرفها، كنت أشمّ رائحةَ الفساتين/ تأتي من بعيد/ وأرى الأنوثةَ تمشي/ غيرَ آبهة بالخراب/ أما من لا يعرفها/ فلا يشمّ غير رائحة الغبار».

التقيت بنامق سلطان أوّل مرّة في شهر تشرين الأول/أكتوبر عام 2020 في مدينة دهوك، وما زلت محتفظا بأثر ذلك اليوم في نفسي، ولم يكن شِعره هو صاحب ذلك الأثر، ولا صوته الدّافئ الأموميّ، وليست كذلك آراؤه في السّياسة وفي الأدب، إن ما لدى الشّاعر من سحر لا يُقاوم يمتلكه في وجهه، فالصّرامة الباذخة في صورته المنشورة على صفحته في فيسبوك تنقلب فجأةً، ومنذ اللّحظة الأولى من اللّقاء، إلى محيّا يشيع فيه الخجل الذي يشبه الخفر، وسماحة في التّعابير لا تدّعي البراءة لأنّها صورة وافية لها، بالظّلال وبالألوان. وتأتيك مثل هذه الصّورة المقلوبة وأنت تصافحه، فكفّه عريضة وطويلة وغضّة لكنّها تنقل إليك مشاعر واضحة ومكشوفة كأنما لفتاة. هل ما زالت تسكن هذا الرّجل الضّخم مثل قائد حربيّ روحَه الأولى التي نزلت أوّل مرّة على الأرض؟ منذ صافحني، وقد مرّ على تلك الأمسية أكثر من حولين، وأنا أحتفظ في يدي بملمس ورقة شجرة عطريّة حين تفركها بأصابعك، ويفوح منها الشّذا عن طريق اللّمس، قبل أن تستروحه في الهواء. يكتب نامق سلطان الشعر ولا يعبأ بالقرب والبعد من عالم النشر، كأنه يعيش في أرض لا ينبت فيها غير الشعر حرثها لنفسه، في مدينة دهوك التي هاجر إليها بعد خراب مدينته الموصل، يأخذ طريقا واحدة كلّ يوم بين البيت والجامعة العلميّة التي يدرّس طلابها علم الهندسة. المكان الذي يكتب سلطان فيه شعره يقع في نقطة على هذا الدّرب، ولنا أن نتخيّل هذه النّقطة مختبرا شعريّا تمكّن صاحبه أن يمتلك فيه أسرار لغة الشّعر الحديث. هل كانت القصيدة لديه مسألة رياضيّة يشرحها لنا مثل أستاذ لطلابه، أو نظريّة هندسيّة يقدّم لنا براهينها ونستلذّ بها لأنها صارت مفهومة بعد أن كانت صعبة ومستحيلة؟

شِعرُ نامق سلطان من الصعب الممتنع، وقد تحوّل بموسيقى الكلمات إلى غناء، وهذه هي الموهبة والصّنعة، فالشاعر يكتب الخيبات التي تكدّست فوق رؤوس شعبه عبر السنين، بطريقة اختار لها أن تكون نشيدا، كي لا تتحوّل إلى أداة للهدم.

في كتابه الشعريّ الذي يحمل عنوانا غيميا وسماويا وأبيض: «مثل غيمة بيضاء» يحاول الموصليّ أن يعيد إحياء مدينته المحترقة إلى الوجود ثانية، بواسطة هذا الهدوء الذي يشبه الغناء الحزين، ناحتاً حجارة المباني التي تحولت إلى غبار من صخر آلامه، ليثبّتها لنا في متحف الشمع هذا على الورق:

«في (الميدان) / ثمة عجوز تجلس قرب باب مخلوعٍ/ تحدّق في مجرىً وسط الطريق/ الطريقُ خالٍ/ والمجرى خالٍ/ والبيت خالٍ».

نبرة الشاعر تريد أن تؤكد عكس ما تقوله القصيدة، فهناك شغور، وهنالك حضور في الوقت نفسه، أي أن الشاعر يقول عكس ما يقصده، وهذا هو السحر الذي يمتلكه الشعر، ويستطيع بواسطته إيهامنا بأن الأبيض هو في الحقيقة أسود، تبرّأ من لونه بفعل السحر، وصار أبيض. المجرى في القصيدة موجود وغير موجود، وكذلك البيت، والطريق. هذه اللعبة يكررها الشاعر في قصيدة أخرى: «في المحطة/ صالةُ الانتظار خاليةٌ/ وكلّ شيء هادئٌ/ وباردٌ/ حتى الشبّاكُ الوحيدُ المفتوحُ/ أرى ضوءَه يرتجفُ/ من البرد».

الصالة هنا فارغة، لأن لا أحد فيها ينتظر، ولا مسافر يصل، وهذا هو تأكيد الشِعر على الوجود رغم عدمه، أي أن (الصانع) صار هو (الخالق) فالفراغ هو الشكل الفني للامتلاء، والهدوء في صالة الانتظار الخالية، يشير إلى الضجّة المفقودة في المكان، بسبب الحرب التي هدّمت كل شيء وجعلت الناس يهاجرون من المدينة، تاركة الشاعر مثل من كان لديه كل شيء وخسر كل شيء، ولا وقت لديه كي يبدأ من جديد، وتبدو المدينة التي يتحدث عنها كما لو أنها مُحقت بمشهد سرياليّ لم يُبقِ فيها غير: «مقابر/ أو مشانق/ أو مرابض لذئاب ضالة/ أما الأشجار فهي خارج المشهد / والأنهار كذلك/ والأمطار».

شَوَتْ نارُ الحرب حروف الشّاعر وصلّبتها، وأزالت عن فولاذها كل ما علق به من شوائب، كيف يمكننا الكلام عن موضوع الأمل في هذه القصيدة، غير أنه موجود بقوة، ومفقود كذلك، وبالقوة نفسها:

«قادني طفلٌ / إلى بيوتٍ تهدّمتْ على أهلها / كان الطفلُ مذهولاً / وهو يروي ما رأى/ لم يكن خائفاً/ أنا الذي كاد قلبي يتوقف/ من الخوف».

رهبة الشاعر ورعبه مما حلّ بمدينته، تقف منهما بالمرصاد شجاعة الطفل الراوي، الذي في إمكانه شطبَ كلّ ما شاهد، وتأليف قصة جديدة تكون المدينة هي المكان فيها، وهي الزمان والشخصيات والأحداث والحبكة، وكلّ شيء. ويمضي الموصليّ يضخّ الحزن في قصائده، لتتكون منه في النهاية ظلال فاحمة هي غيمة سوداء جعلت الكتاب أشبه بوعاء من المرارة تسنّى للشاعر أن يفرغه شيئاً فشيئاً. البناء الفني قويّ للغاية، والإيقاع حاضر، كما أن روحاً واحدة كانت تسكن سلطان وهو يكتب جميع قصائده، بالإضافة إلى الجوّ الصافي الذي كان يحيط به، والهدوء الشديد في النفس، كلّ هذا جعل منه كأنما راوٍ للقصائد، أكثر منه منشد لها.

للشاعر خمسة دواوين مطبوعة، متوفّرة جميعا على النتّ، عدا الأخير: «إقحوانة الكاهن» 1996، «ترقيع الأمل» 2016، «مثل غيمة بيضاء» 2019، «قريبا من الأرض» 2020، «كأنّي أمشي على حبل» 2022.

يحاول الكثير قول الشعر الحديث، ويفشلون مع الأسف الشديد لأنهم يضعونه غامضا على الورق وبهيئة رموز دون إعطاء القارئ أيّ مفتاح للحلّ، أو أنهم يخلطون بين السؤال والجواب، أو يقدّمون الثاني، وتصير القصيدة في النتيجة عُقدةً ضخمة لا يحلّها ألف حلال وشرّاح ونقاد. الشعرُ الحديث ليس ألغازا لا أحد يعرف معناها، ولا مسائل فلسفيّة تحتاجُ إلى إعمال الفكر، بل هو الكلام المختلف والمُمتع والبهيّ، هو الصعب الممتنع ومِقوَدُه الغناء، وهذا شرط أساسيّ في رأيي، فلا يوجد قصيدٌ في منطقة تنأى كثيرا عن مكان المُنشدين. شِعرُ نامق سلطان من الصعب الممتنع، وقد تحوّل بموسيقى الكلمات إلى غناء، وهذه هي الموهبة والصّنعة، فالشاعر يكتب الخيبات التي تكدّست فوق رؤوس شعبه عبر السنين، بطريقة اختار لها أن تكون نشيدا، كي لا تتحوّل إلى أداة للهدم.

كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي