تنوع المحكيات في كتاب “هناك…حين ترجني أوتار المكان”

2023-04-18

عبد الغني فوزي

صدر مؤخرا كتاب حكائي للناقد والكاتب المحجوب عرفاوي، بعنوان دال ومنحوت «هناك.. ترجني أوتار المكان». وهو محكيات تسعى إلى التعبير عن مادة خام، تمثلت في محيط قروي بين الماضي والحاضر، رصدا بكيفية حكائية للتبدلات الاجتماعية والفكرية والقيمية أيضا.. بغية تقديم صورة متكاملة عن بقعة جغرافية، لها خصوصيتها في العيش والتمثل، استنادا إلى استعمال لغوي مخصوص، يرقب العالم من نقطة ما، فالكاتب لم يختر هذه البقعة هكذا، بل تلبية لنداء الداخل أو الأعماق، لرصد علائقها، وأحيانا الصغيرة، إبرازا في كيفية حكائية، للطريقة البليغة للقرويين في تفجير ذواتهم المشروخة ضمن مكان مهمش، بعيد عن كل الأضواء، إلا ضوء الحياة في الحكاية.

عاشوا في امتلاء، مفجر في اجتماع بشري، نسج شبكة علاقات خاصة بالدولة والقبيلة، بالفقر والجهل..طريقة خاصة ومخصوصة على الأرض ونوافذها التواصلية من لغة وإشارات ورموز..

تنغمر المجموعة في محكيات متنوعة المسالك، بعضها يستجلي وضعيات ومواقف، والآخر منها يدون مسار الطفل الذي كانه الكاتب، استحضارا لأسماء أصدقاء الصف، ولأساتذة، كل باسمه وصفاته، بل وحركاته وسكناته. والآخر منها يوظف أبطالا، عبر قصص قصيرة تستجلي الظلال، سعيا إلى القبض على المنفلت. والثالث من هذه المحكيات يستحضر أمكنة بارزة (السوق، المحطة، المدينة المجاورة). كلها مسالك تقاوم النسيان، في عراك للشفوي والساقط من التاريخ؛ بل المنسي. فشرط الحرية التي يدافع عنها الكاتب، يمتد للكتابة نفسها.

الكاتب وهو يسوق لنا مجموعة لوحات حكائية مشهدية لأمكنة قروية، ركز على أبطال إشكاليين (الغزواني، البركاوي، زايد الخليفي) بمن فيهم الطفل الذي كانه الكاتب، مقدما لهم صفات متنوعة تجعلهم منفلتين عن السلطات، في مواجهة لكل أشكال التدجين والوصاية، فهذا النموذج المقدم يصارع بكيفية تحتوي على جنون ولا عقل، على طاقة من التمرد والانفلات، وهو بذلك يصارع حتى في علاقاته بالماشية والقهر والتسلط… في هذا السياق، يعتني الكاتب بالحمولة النفسية والاجتماعية للشخصيات، مركزا على التمثلات، ضمن مكان فلاحي معزول له تمظهراته التي تشكل امتدادا طبيعيا للشخصيات. نفتح هذه المحكيات على عنوان «شامخ اسمها»: «قبل انبلاج الصبح توجه أبي إلى سوق الأربعاء الأسبوعي على عربة الكارو ليبيع كبشين وليتبضع لحما وخضرا وفواكه وتوابل.. في ركن من بهو بيتنا الطيني؛ جلست على ركبتي أصنع قطارا من علب السردين؛ وقد ساورني إحساس وقتئذ أن مخترع القطار إنسان بحجم الديناصور.. في لحظة انتشاء تخيلتني أقود قطاري نحو بلد بعيد يرفل في التقدم؛ جالبا منه أفرشة وأغطية للمقهورين؛ عصائر وحلويات للأطفال المحرومين؛ أجهزة إلكترونية لأنهي محن نساء قريتي؛ يستيقظن في غبش الإصباح في فصل الشتاء لحلب الأبقار في عز ظلام دامس مخيف، وصقيع يبنج الخدود ويفلح الأيدي والشفاه…». هنا يمكن الحديث عن جدلية الشخصيات والمكان في تجاذب فعال؛ بل أخاديد الشخصيات والشروخ تمتد للمكان، وهو يرى العالم دون ترتيب، أو تسطير حضارة، أو مدنية. إنه الأسلوب الخاص الذي يتخذ لنفسه طريقة موازية لما سبق. في استعمال اللغة التي غدت مشبعة بالاستعارة التي تجسد التداخل بين الواقع والخيال، بل الوقائع المرجعية أكثر غرابة من الخيال نفسه، فالأحداث، استنادا إلى معطيات اجتماعية، محاطة بمشاعر مشتركة، تمتد لطريقة التفكير.

هنا يهمني أكثر التوقف على أسئلة ملازمة، كون هذه المحكيات تلعب مع الذاكرة أولا، من خلال استعادة ذكريات في قالب حكائي له خصوصيته أيضا، وبالتالي، فالأحداث منتقاة على رسوخها ومحفورة، تعبر للحكاية التي لها اشتراطاتها أيضا. فنصبح أمام معطى ثالث هو مزيج من الواقعة المرجعية وواقعة الحكاية التي غدت سحرية وعجيبة. لكن في تقديري المجموعة أفلحت، كونها اختارت محكيات دون إطار القصة أوالرواية… أو قل تحتوي على تعدد أجناسي: القصة من خلال التركيز على حدث في الظل، والرواية من خلال لوحات ممتدة في المكان والزمان، بل السيرة الذاتية من خلال حكي الكاتب عن الطفل الذي كانه، فهذه المعطيات تقدم مداخل للأنواع السردية، لكنها انتصرت للمحكيات لإثارة عدة أسئلة متشابكة: سؤال المرجع في الحكي، سؤال الذاكرة، سؤال المتخيل، سؤال البناء، من جانب آخر المحكيات هذه، تقدم كلوحات مشهدية مشبعة بالتحويلات والبوح في استنفار للحواس، تفجيرا لكل أشكال المسكوت عنه في الدين والسياسة، وعقد العيش.. تقول المجموعة: «دلفوا إلى مقهى يطل على حديقة دثر الصقيع ذاك الصباح عشبها ؛ فاختارت قطط اعتادت التسلل إليها لأخذ حمام شمس؛ وجهة أخرى بحثا عن الدفء. يرتدون جلابيب صوفية؛ يعتمرون قبعات، ينتعلون أحذية يزيد مقاسها على 45؛ لم تمتد إليها يوما يد ماسح أحذية. جلسوا إلى طاولة زجاجية دائرية بدت وسطهم صغيرة كقطعة نقدية. طلب علال من النادل إبريق شاي كبيرا منعنعا، ثم نظر إلى عمارة عبر زجاج المقهى الصقيل وغنى:

لا ربعا عجبتني سايرا تبني

فلوس الطاليان زادو فلبنيان

العمارات بانو بفلوس ميلانو

ما جعل المجموعة تلتقط أحداثا، تمظهر وتبرز المفارقات، في فضح للأقنعة؛ وإثارة للأسئلة القلقة (سؤال الحياة، سؤال الواقع، سؤال الحرية) فأخضع ذلك المجموعة، لتحويرات وتحويلات خفية، تكون معها المسودات الحكائية سلسلة أبواب، كل باب يفضي لآخر. فالمجموعة تنتصر للمحكيات، لأن الواقع «الخام» يفيض عن كل قبضة قصصية أو روائية، فهذه المحكيات بدورها تلعب أجناسيا كأنها طفولة الحكاية التي تقلب الوظائف، وتدعو إلى حكي جديد استكشافي ومتجذر. بهذا الصنيع، قد يقدم الحكي مداخل أساسية للعلوم الإنسانية، في سعي إلى إثارة الأسئلة الحقيقية عن الواقع والجماليات، كون المسرود له فائدة ومتعة مشبعة بالسخريات التي تليق بأبطال مطاردين، اختاروا الانغراس ـ وليس الإقامة فقط ـ في اللغة والمكان، وفق زمنية خاصة دون معالم؛ لتبقى المحكيات جارية في المكان والزمان، وفيها نظر وسخرية عند أولي الألباب. نقرأ في حكاية بعنوان «يسكنه المكان»: «يزحف البودالي نحو سن التسعين وما يزال يمشي على الأرض منتصب القامة ويسمع ويبصر جيدا. القرية التي يعيش فيها، قديسته.. لم يفكر يوما تركها والهجرة إلى المدينة كما فعل كثيرون حتى لا يتهم بأنه غدار كبير تنكر لمكان قضى فيه سنوات طوال. كلما وطأت قدماه حقلا من حقوله يقبل التراب، يقبل البنات، يقبل أفنان الأشجار. ويقول في مناحة قصيرة: «الماء واهب الحياة للأرض، للإنسان، للحيوان، للطيور؛ للحشرات ما صغر منها وما كبر». وعندما يتذكر الجوائح والمجاعات التي عصفت بجغرافية بني عمير من الزيدانية إلى الدراع (خميس بنس شكدال) تدمع عيناه ويبوح بنبرة حزينة لمن يجالسه: « لإطفاء جحيم الجوع أكلنا النبات؛ شوينا الجراد، وضعنا في الماء المغلي الملح وشربناه دون خبز».

لا أخفي أني أصاحب هذا الرجل في الكتابة والحياة أيضا. وكل هذه المسالك المسرودة عبرتها وعبرتني ؛ وأحيانا عبرناها معا. لذلك كنت في إصغاء وتقاسم كمية الحنين المنكسر الساري في السطور. وفي المقابل، المحكيات هذه تثير عدة أسئلة في الحكي والمرجع الشفوي والمكتوب، الغياب والذاكرة.. وهي بذلك كتابة قلقة، على قدر كبير من العمق. ولي اليقين أن النافد والباحث المحجوب عرفاوي سيعمق هذا المسار برعايته للأسئلة نفسها، مرسخا إياها في الكتابة وبها، على ضوء تجربته الغنية بالسفر والمشاهدة ومقروئه المتنوع… دون استلاب نظري أو إجماع ضحل وغافل كما هو الحال في مشهدنا الثقافي والعربي.

شاعر وناقد مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي