قصص «ألفة الوحدة» للأردني مجدي دعيبس: مناخات الفقد والخيبة وحدود التشكيل

2023-04-17

رامي أبو شهاب

في ظل اكتساح الرواية للمشهد الإبداعي العربي ينشغل بعض كتاب القصة في تطوير وقائع القصة على المستوى الفني، كما – أيضاً- الثيمات التي يمكن أن تستجيب بصورة أكثر وظيفية للصيغ والتغيرات التي فرضتها تحولات العالم الذي يشهد تناقضاً بين مظاهر التطور والسؤال القيمي؛ ما أفرز نوعاً من الاغتراب للذات التي أمست تحترف المراوغة للنجاة، أو أن تنشغل للبحث عن المعنى الكامن في هذا الوجود.

الشكل وتغريب الواقع

ضمن مجموعته القصصية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2023) بعنوان «ألفة الوحدة» يسعى مجدي دعيبس إلى تخليق شخصياته لا عبر ما توافق عليه – ضمن كلاسيكية القصة – حول توفر الواقع على شخوص وذوات تعكس الوجود، وتعبر عنه، إنما على العكس من ذلك، فإن مجدي دعيبس يكون شخصياته أو شخوصه كي تعيد موضعة الإنسان ليقرأ فيها تعريفه الجديد في عالم لا يتوقف عن أن يكون غير طبيعي، وهنا نلمح مسوغات صيغة العنوان التي تحيل إلى محاولة تطبيع الغريب، ضمن صيغة أقرب لجدل لا منجز.

ضمن قصص قصيرة أقرب إلى التكثيف والإيجاز، مع تخفف واضح من التفاصيل، بالتوازي مع صيغ مقننة على مستوى الجملة من أجل بناء دلالي قادر على تشكيل التأويل، وهذا يأتي في إطار بنية قصصية وفية لمعنى الحدث، وتصاعده فضلاً عن مركزية المفارقة، لا من منطلق حرص الكاتب على الوفاء للمواضعات الكلاسيكية في ما يتعلق بكتابة القصة، بل من أجل الحرص على بناء رؤية متقدمة في تسييس الكتابة من أجل ألا تتعرض للتعرية والسقوط كما نلاحظ في الكثير من المجاميع التي لا تتجاوز محاولات للكتابة، وفي بعض الأحيان تتحول لكتابة بلا هوية فنية، ما يؤدي إلى انطفاء الدلالة، أو تلاشيها نتيجة غياب رؤية واضحة، مع الاتكاء على كتابة تقترب من استيهام لغوي بلا مقصدية تتجه نحو تسديد الفعل الخطابي.

يحضر المتلقي في وعي الكتابة ـ في قصص مجدي دعيبس- عبر التمحور حول ثيمة خيبات المتتاليات، ونشوء غير المتوقع، مع شيء من البحث عن التفسير لما يمكن أن تكتسبه القصص التي يتقدمها استهلال واحد يقول: «يظل الإنسان إنساناً حتى يعقره كلب مسعور» يحتمل هذا الاستهلال الكثير من السياقات، وقيم الترميز لمجتمع منسي أو متروك، والكلاب هنا تبقى فعلاً لغوياً رمزياً مضاداً لنقض الإنسان الذي يفقد إنسانيته.

فاعلية الوحدة ـ الفقد

هكذا تتشكل القصص ضمن تركيز على شخصيات متوحدة، متفردة، تختبر الهلوسة، والأحلام حين يمتزج الخيال بالواقع لتفقد الأشياء معانيها… كل شيء يبدو مقلوباً في مجتمع ينبذ المختلف أو الآخر، كما في قصة « الأعرج» التي تعني انحسار قيم البراءة، حيث يختفي الطفل الأعرج من ساحة لعب كرة القدم، لكنه يظهر هيكلاً عظمياً يحتضن كره مهترئة، هذا المصير يبدو نسقاً أو نمطاً يمتد في المجموعة كما في قصة أخرى تنهض على تعرية الأفعال التي تقتص من إنسانية الإنسان، واستثمار تشوهاته، واحتياجاته، كما ضعفه، ولاسيما حين يكون الاستغلال قائماً في بعد طبقي، أو أنه يعتمد منظومة تسلسل القوة ضمن تشكيل تراتبي كما سنرى في مجمل القصص، ففي قصة «تمثال من الجص» تتحدث عن امرأة اضطرت للعمل سكرتيرة أو في وظيفة لا تمتلك شيئا من مؤهلتها سوى أن تتخلى عن ذاتها، من أجل أن تعيل الأسرة، قد تبدو القصة مستنزفة، غير أن التشكيل القصصي أغدق على الفعل نوعاً من الدهشة، ولا سيما عندما تتحول السكرتيرة في حضن المدير إلى تمثال من الجص، ومن هنا نرى كيف تتواشج العناصر التركيبية في القصة لتحمل المآلات عينها. تبدو ثيمات الوحدة، والخوف، والفراغ جزءاً من مناخات القص، فعلى الرغم من الثيمة الفردية التي تغلف القصص، غير أنها تحتمل قدراً كبيراً من التعريض بقيم المجتمع، كما التشكيلات التي أفرزت هذا النوع من الاختلال، لكنها أيضاً تنغرس بشكل عميق في وعي الإنسان الذي يسعى لأن يدرك تموضعه في هذا العالم، فالعلاقات في مجمل القصص تبدو آيلة للسقوط، للقطع، أو البتر، ومنها «قصة المرآة الغريبة» التي تتخذ من مواجهة الذات عنواناً لصيغها الدلالية، فحقيقتنا نلتمسها في مرآة الذات التي تعد انعكاساً لما في داخلنا من رغبة في أن نكون مختلفين، حيث النساء لم تعد قادرة على تقبل ذاتها في زمن شيوع عمليات التجميل، وكما أيضاً قي قصة «التابوت»… هكذا نستعيد هذا الجدل في معنى الطارئ، أو الحديث عبر قصة «شجرة الكينا» حيث يتداخل السياسي بالمجتمعي، في حين تحتمل القصة معاني مخاتلة في التعبير عن أزمة الإنسان، كما مشاكله؛ ولهذا يبدو التخلص من شجرة الكينا حلاً للمشكلة، فتبدو القيم الدلالية مشوشة بعض الشي، فالغربان تعتلي الشجرة الهرمة، فتحاول البلدية أن تقطعها بعد تراكم الثلوج عليها، غير أن الغربان تهاجم عمال البلدية، ما يضطرهم لقتلها بالبنادق، وعلى ما يبدو بأن ثورة الغربان قد تبدو مؤشرات لشيء أكبر مما نعتقد، فالقصة تستهدف مجال تعميق الهوة التي نعاني منها، فلا جرم أن يعنون مجدي دعيبس قصته بعنوان« الغربان وشجرة الكينا وأشياء أخرى» وهو عنوان ذكي، كونه يعتمد مقولة «الأشياء الأخرى» لتكون جزءاً من فعل التلقي والتوليد الدلالي.

التقاطع بين الذاتي والجمعي

تتولد القصص من مناخات واضحة لإشكاليات مجتمعية، لكنها تقدم في تأطير ترميزي غير مباشر، ولهذا تحتاج لذخيرة معرفية من لدن المتلقي، ففي قصة «من ذاكرة الماء» نرى معنى الصدمة للمرأة التي فقدت أبناءها الثلاثة في حادثة يعرفها الجميع، فالسيدة أو الأم التي تواجه الحافلة كل يوم وتصطدم بها .. هي ترزح تحت وطأة رفض حقيقة أن أبناءها الثلاثة لن يعودوا كونهم توفوا في حادثة السيول المشؤومة… هكذا تبدو قيم الفقد وغياب المسؤولية (المؤسسة ـ الفرد- المجتمع) جزءاً من مناخات عالم يتشكل فيه الإنسان فيتلاشى معناه، أو قيمته لتصل إلى الحدود الدنيا أو الحدود الظاهرية. تبدو قيم اللايقينية وفعل الكنايات أو البناء الاستعاري للقصص جزءاً من ثقافة الكاتب، ومنهجه الإبداعي، وهذا يتضح في قصة «الديناصور» الذي يهرب من المتحف، وهنا تبرز قيم التضليل التي تمارس من أجل تبرير الإحالة، لكن كيف يمكن أن نعيد تركيب معنى الديناصور، وإلى أي معنى يحيل! ولاسيما حين يدّعي مدير المتحف بأن الديناصور الضائع ليس سوى كلب لمدير المتحف، هكذا تبدو الأشياء دائما غير حقيقية، كما هي حال الكاتبة التي تفتقد قصصها للرومانسية فتجرب أن تختبر علاقة حقيقية بحثاً عن اختبار الرومانسية في قصصها، غير أنها تصطدم بحقيقة رجل لم يكن سوى أكذوبة، ما يحيل إلى مناخات الفراغ، وهنا نلاحظ أن القصص ترجئ في تكوين حبكتها وصولاً إلى تلك التحولات الصادمة التي نواجهها في نهايات القصص، وهو نسق يكاد يتكرر في مجمل القصص، ونعني محورية المفارقة كإطار مشترك يجمع القصص برمتها.

جفاف الأحلام

لكل قصة مناخاتها، وتقاطعها مع الواقع، كما في قصة «أحلام صيف جاف» إذ تعبر السخرية في كثير من القصص، وتتبدى في منظور يقترب من السوداوية إلى حد ما، كما قصة «سبعيني» بالتوازي مع استدعاء قصة انتحار الروائي الأمريكي همنغواي، وهذا يحيلنا إلى قيمة فقدان الزمن، وتلاشيه، بالتوازي مع افتقاد الماضي كما في قصة «شجر الزنزلخت» فعوالم القصص لدى دعيبس تبدو جزءا من أزمة الذات في بحثها عن المعنى، فثمة أزمة واضحة لمعنى التلاشي، كما في قصة تتحدث عن كاتب كلما كتب قصة تتحقق في الواقع، غير أن نهاية إحدى قصصه تصيب واقعه الذاتي، ولاسيما حين تربح زوجته اليانصيب، فتطلب الطلاق، وتهاجر إلى سيدني.

في قصة «أحلام منتهية الصلاحية» ثمة استعادة لمناخات الفقد، وتهشم الحلم، أو فعل الإرادة ضمن قراءة لمتعالية عالم لا يمكن أن نستوعبه، وتتحدث عن قصة فتاة تنام على غصن شجرة، وتحلم بأن تتحول إلى حمامة تطير، غير أنها تسقط عن الشجرة، فتكسر عظمة الترقوة، وحين تشفى تطلب منها أمها عدم النوم على الشجرة، غير أن الفتاة تصرّ على الحلم كي تتحول إلى حمامة، ومن ثم نقرأ في ختام القصة: «سكتت الأم عندما لم تجد ما تقوله، وتركت ابنتها تحلم؛ فغداً ستبلغ، وتتخلى عن جميع أحلامها البريئة حالما تدرك بذاءة هذا العالم» .

في قصة تستجلب مناخات العزلة والخيبة عبر استحضار رواية الروائي ميلان كونديرا «الكائن الذي لا تحتمل خفته» مقابل قصة « خفة الكائن الجديد» غير أن الإضافة تتبدى في كلمة الجديد، ونعني الإنسان الذي كونته وصاغته قيم جديدة أحدثت تصدعاً في بناء ملامحه لا خارجياً كما في قصة المرآة، إنما في عمق هويته المجتمعية في غمرة الانشغالات التكنولوجية التي أفقدت الإنسان تواصله مع المحيط، مع شيوع التفاهة ضمن أجواء غرائبية، ولاسيما حين يدخل رجل محل لبيع الابتسامات ليستسلم لإغواء مجاني من فتاة، ليتعرض إلى فعل استدراج، لكن بعد أن تحصّل على تجرية فريدة.

جدلية العنوان من جديد

قد تبدو قصة «ألفة الوحدة» فاعلة في تمكين تلك الإسقاطات الدلالية، ولاسيما وهي القصة التي تسيّدت المجموعة، فعنوانها يبدو حاملاً للكثير من المتناقضات، لكنه تناقص يجيل إلى فراغ وخواء ينطوي على جملة من الاختلالات العميقة، حيث تبتدئ القصة برجل يعاني من الأرق بوصفه علامة على هذا الوجود المضطرب، يسمع الرجل صوت ألعاب نارية وموسيقى ـ ربما ـ بداعي مناسبة نجاح أحدهم، لقد فات موعد النوم لهذا الرجل الذي طلق زوجته، وترك أولاده يعيشون معها… مضت السنون حتى شاب شعر الرجل، وهو قابع في شقة صغيرة في حي بعيد وهادئ… في ليلة الأرق يرى سيارة الشرطة تحضر للبناية التي تنطلق منها الأصوات، يشعر بالراحة لأن أحداً ما قام بمهمة التبليغ، يخرج ليستطلع الأمر ليتفاجأ بالشرطة تعتقل أولاداً ومراهقين يدخنون الحشيش بعد أن تركهم أهلهم في الشقة، ومنهم كانت ابنته!

يمكن القول إن القصة ربما بدت مخيبة بعض الشيء بوصفها حاملة للافتة المجموعة حيث كانت غير مواتية للأجواء التي نهضت عليها باقي القصص، فالعنوان يبدو أكبر من مجريات القصة، لكن هذا لم ينل من هندسة سائر القصص التي جاءت منضبطة مع سياق ألفة الوحدة، على الرغم من تهاوي قصة ألفة الوحدة، وعدم قدرتها على إقناعنا… على عكس باقي القصص التي بدت أكثر عمقاً من حيث التشييد الدلالي، لتبقى المجموعة ذات قيمة لقدرتها على اكتناه الخيبات، وتمثيلها في مناخ قصصي فاعل، ومؤثر.

كاتب أردني فلسطيني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي