رواية كايا للسوداني عز الدين طه: أوديسية عبور المتوسط!

2023-04-15

 سيد احمد علي بلال

تقع رواية «كايا… وليمة الليل، منصة الإملاق» للروائي السوداني عز الدين طه في 494 صفحة من الحجم المتوسط. يهدي عزالدين طه روايته الى «ملح الأرض.. صُناع الحياة، كنداكات وتروس ثورة ديسمبر/كانون الأول (السودانية) المجيدة. إلى الشهداء والغرقى والجرحى والمفقودين». يستهل الروائي عمله بمقطع من قصيدة للشاعر السوداني علي عمر قاسم (1942- 1989) يقول فيه:

«وهكذا هجرت داركم

أطلقت للريح مركبي

وتهت في البحار جنازة على المياه

خارج الزمن.. بلا كفن

لا جزيرة تلوح في الأبعاد.. لا وطن

أعب ملح البحر ارتوي من الدوار»

أهمية الرواية

تكتسب الرواية أهميتها من أنها من أوائل ما كتب من مغامرات عن عبور أشخاص للبحر الأبيض المتوسط في اتجاه القارة الأوروبية حلما بحياة أفضل، هروبا، أيضاً، من أنظمة ديكتاتورية، لكن الرواية، وهي تورد ذلك، لا تبعد عن المقارنة بين قدوم الاستعمار في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى جنوب العالم وبين هذه الهجرة من الجنوب صوب الشمال بوصفها حلما بالخلاص.

جاءت في أربعة فصول: الفصل الأول بعنوان أحابيل البرمائي؛ الفصل الثاني بعنوان نافذة للتلصص على الرياح؛ الفصل الرابع بعنوان شهوة الغرق بينما عنوان الفصل الرابع (لمن قالت يا حبيبي).

أخذت اسمها من اسم تلك المرأة التي خصص لها المؤلف نحو 12 صفحة، والتي كانت تقيم في منطقة قفر قرب المخبز الذي كان يعمل فيه. يقول عنها الراوي «كانت الإشراقة الوحيدة التي تضفي بعض الانسنة والليونة على طقس المكان الكئيب هو وجود تلك المرأة الأبنوسية المنحدرة من منطقة افريقية تقع ضمن تخوم جنوب الصحراء». ويقول عنها أيضا «رأيتها تتجول بين مواقع نيرانها الخمسة كعصفور أحمق حتى خلتها منسربة أو هاربة من مخيلة رسام متشائم». ويقول أيضا، كانوا ينادونها باسم (كايا) أما اسمها الحقيقي فهو (كايمانا) ويعني «قوة البحر»؛ ويقول عنها في موقع آخر «كان يحوم حولها ذباب البؤس والعنت وثلة من الرجال البؤساء المحرومين الذين يتطاير الشبق من عيونهم المحمرة كحبات النبق».

تبدأ الرواية بحلم له مظهر الكابوس يداهم الراوي بعد تعرضه للإصابة بنوبات من الحمى اثر تعرضه لخديعة من محجوب الحلزون الذي احتال عليه في إطار إعانته أو مساعدته، عبر وسيط ليبي، في محاولته تهريبه عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، فاستولى الحلزون على كل مدخرات الراوي المالية التي جمعها عبر معاناة من خلال قيامه بأعمال هامشية، مثل تنظيف مخازن التبن اليابس وترتيب العلف اليابس، أو قطع أخشاب من مزرعة زيتون، أو القيام بترجمات ركيكة لبعض الوثائق من اللغة الإنكليزية إلى العربية بمساعدة قواميس، لكن الحلزون الذي استولى على المال لم يُعِد للراوي سوى جواز سفره وصوره الشمسية.

مراوغة الشعر والنثر

وفي إطار معاناته يسرد الكاتب جزءاً من سيرته قبل لقائه بمحجوب الحلزون فيوضح ذلك بالقول «أوقفت دراستي لعلوم الاجتماع في جامعة الانتفاضة لأتفرق لجمع الدنانير العصية، ثمن الرحيل» ثم يسلط الضوء على مراحل سابقة حين كان شديد الاهتمام بالشعر فيقول «كنت أحبو متعثراً على أبسطة النصوص الإبداعية الخديجة التي تولدها الغربة حتى توهمت بأنني أكتب شعراً من فرط وحدتي المطبقة». وعن تجربة تخلصه عن الشعر يقول «كان أوان الخلاص من شيء ظل يربكني هو منتصف ذلك النهار الخريفي الهطال، عنيف العواصف، حين جمعت كل ما كتبته من أشعار نفرت منها روحي، فقمت بحشرها كلها في قارورتين بلاستيكيتين خضراوين أقفلتهما على صراخ ماردي الوجل بقفل مسقى بسائل لزاق من الداخل عند منطقة العنق الحلزونية ليترافقا في رحلتهما الأخيرة نحو الفناء الأبدي». يتماهى إعدام الراوي لأشعاره مع استبعاد أفلاطون للشعراء من مدينته الفاضلة. ورغم ذلك يلامس الشعر تخوم الرواية فنجد شاعرية الروائي تتجلى من الجزء الأول والأخير من الرواية، كما تعبرعن نفسها في عبارات عديدة مثل «تتهادى كنصف قمر ويفتلون حكاياتهم وكان الطقس ربيعياً كما ولدته أمه» وفي مقاطع مثل:

لكنهم ذبحوا عصافير أحلامنا بمدى صدئة وأظافر من نار».

«ما زال الخوف طفلاً يحبو»

«حملنا أرواحنا على أكف الموج العنيد»

وها هو المغني جبرائيل، أحد شخصيات الرواية، يتحدث عن علاقته بالفن فيقول «لقد أصابتني عدوى العزف على الآلات الوترية منذ زمن باكر. كنت أصنعها لوحدي من فوارغ صفائح الحديد، وحين بلغت العاشرة أهداني خالي جيمبونقا جيتارا قديماً».

ثنائية الحب والموت

يلعب الموت والحب أدواراً رئيسية في تأطير الرواية، فقد أخذ الموت حبيبة الراوي السودانية بعد أن تزوجها أحد الرأسماليين الطفيليين ليأتيه خبر وفاتها أثناء وهو في الغربة، ولم يتوقف الموت عند هذا الحد وإنما تمادى ليأخذ حبيبة رحلته، الجنوب – سودانية نيابوك، أثناء غيابه عنها للعمل في الريف الإيطالي وذلك بعد وفاة صديقه زكريا من نيابوك، الذي علم بوفاته منها حينما قابلها في الحديقة تبكي فقالت له:

البركة فيك، آه يا حبيبي لقد رحل.

وستظل عبارة (يا حبيبي) تدور في خاطره لوقت طويل، هل تقصده هو، أم تقصد صديقه الراحل. أما وفاة المغني الأسمر عليش كارلوس فيسمعها من عامل النظافة الذي يقول له عن عليش: «ظل جيتاره يئن كالمواء البعيد، كلما اقتربت منه المكنسة الكهربائية الطويلة، وجدناه قبل تسعة أيام مستلقيا على ظهره تحت شجرة السنديان الأم» وهكذا يختلط الموت بالحب ثم تذهب نيابوك نفسها، لكن موت نيابوك يمضي متمهلا قرب نهاية الرواية وكأنه لحظة الغروب. يسمع الراوي بإصابة نيابوك المميتة من صديقتها زويانا التي تقول له «لقد تشاجرت معنا دونما سبب مجموعة من شباب منظمة ( نوفاتاليانا) الفاشية العنصرية وذلك بعد أن خرجنا قبل منتصف الليل بقليل فقام أحدهم بركل نيابوك بعنف فسقطت أرضاً حيث شج رأسها حجر الرصيف وقد وطأ أضخمهم بحذائه الثقيل على رأسها النازف وهي تصرخ على الأرض ثم تفرقوا بعد ذلك قبل وصول الشرطة».

أما وفاتها فسمعها أيضاً من صديقتها زويانا التي علمت بذلك من السيدة كريستينا جوسابي مشرفة دير الراهبات الذي كانت تقيم فيه نيابوك.

تنتهي الرواية بمقاطع درامية مثل «دفنت في المقابر ذاتها التي كنت أنام بين قبورها متشرداً قبل أشهر، وستكون سكناها الأبدية» و»كم تمنيت أن نكبر معا في عالمنا الجديد، وكم حلمت بحضور الشتاء برفقتها وتخيلتها مراراً تتقرفص في حضني من البرد لكن كانت الأرض أسرع مني للسطو عليها».

وفي الختام يودعها بعبارات مؤثرة قائلاً:

«حزين لفراقك يا نيابوك، حزين لأنك غادرتي الحياة قبل أن أخبرك بأشياء كثيرة.

بربك لماذا تركتني وحيدا هكذا، أحبو عاريا في الثلج، أتعثر منفطر القلب كضرير منبوذ بين طرقات المدينة الظالمة أدوس على شظايا حلمي المتبعثر في أرجاء المكان وتخيفني تحديقات الغربان».

وتنتهي الرواية في رحاب روما.

كاتب سوداني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي