المفارقة الصادمة في قصص «أُلْفة الوحْدة» لمجدي دعيبس

2023-04-09

موسى إبراهيم أبو رياش

تتميز المجموعة القصصية «أُلْفة الوحْدة» للروائي والقاص الأردني مجدي دعيبس بنزعتها الفانتازية والغرائبية، في تطور لافت لتجربته القصصية؛ محاولا الاشتباك مع الذات الإنسانية المتشظية التي تعاني الاغتراب والوحدة والتيه والتهميش والخوف والقلق والفقر والفقد والصراع الداخلي والخارجي والتأرجح واللايقين والهشاشة والانكسار.

صدرت المجموعة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، في 142 صفحة، تتضمن أربعا وأربعين قصة قصيرة. وهي المجموعة الثالثة لدعيبس بعد «بيادق الضالين» و«ليل طويل.. حياة قصيرة» بالإضافة إلى أربع روايات: «الوزر المالح» «حكايات الدرج» «أجراس القبار» «قلعة الدروز». ومسرحية «الدهليز». وكتاب في السيرة «مغامرون وراء الأطلسي».

يلاحظ من يقرأ قصص المجموعة نهاياتها غير المتوقعة ومفارقاتها الصادمة، وهي السمة الغالبة في معظم القصص، وهذا يمنحها جرعة عالية من التشويق والإثارة؛ كونها تكسر أفق التوقع، وخروجها عن المألوف والمعقول والممكن، ويبرز ذلك على وجه الخصوص في التحولات البيولوجية الغرائبية المرعبة، وكأننا أمام قوى سحرية في إمكانها فعل المستحيل.

البركة الرومانية

يراوده حلم مزعج متكرر كل يوم؛ أنّه سقط في البركة الرومانية، وعندما ينتشل الغطاس الجثة، يخرج كل يوم بجثة مختلفة عنه تمتّ لعصور سابقة، وتتجمع عدة جثث مثيرة تقابل بالإعجاب والاحتفاء، وأخيرا أخرج الغطاس جثته و«عندما عرفوه ارتسمت على وجوههم علامات الاشمئزاز والقرف.. بصقوا عليه وانفضوا من حوله بسرعة».

هذه القصة عميقة الدلالة، وتشكل صفعة مدوية لنا؛ ففي ظل الهزيمة النفسية التي نعيشها، والضعف والفراغ وانعدام البصيرة، والواقع البائس، فإننا نرى الماضي أجمل وأنقى وأفضل، ونتوق للعودة إليه أو استرجاعه، فالحاضر الذي نعيش انتزع كرامتنا وإنسانيتنا، وصادر حريتنا وقرارنا، وهم عندما استقذروه وبصقوا عليه، فإنما يستقذرون أنفسهم ويبصقون عليها، لكنهم لا يملكون الشجاعة ليفعلوا ذلك بشكل مباشر!

مرآة غريبة

تنقلت المرآة الصغيرة بين عدة سيدات، وأحدثت قلقا وإزعاجا لكل منهن، ما أثر في طمأنينة الأسرة واستقرارها، فالسيدة ترى في المرآة وجها مليئا بالتجاعيد المنفرة، على غير ما ألفته في مرآتها العادية القديمة، فتضطرب أحوالها وتبحث عن حلول تؤرق الزوج وتقلق راحته، فيتخلص من المرآة وما جنته عليه. تنقلت المرآة بين ثلاث زوجات، وعادت أخيرا لصاحبتها الأولى عندما وجدتها في محل «أنتيكة» فاشترتها بفرح وشغف رغم توسلات زوجها أن لا تفعل.

هل تكذب المرآة وتزور الحقيقة؟ أما أنها هي الأصدق، تكشف الحقيقة دون مواربة؟ المرآة العادية ترينا الظاهر، الشكل الخارجي، الأقنعة التي نعيش فيها، بينما هذه المرآة تكشف الباطن، تعلن عن الحقيقة العارية دون حجاب. تجاعيد الباطن كثيرة وعميقة، لكننا نهرب منها، نهرب من ذواتنا، من حقيقتنا، نهرب من أنفسنا، نهرب منا؛ جبنا وضعفا وقلة حيلة، وكأننا عندما نتخلص من المرآة تختفي عيوبنا وسخائم نفوسنا، لكنها لا تزيدنا إلا عمى وزيفا وركاما فوق ركام. إن مواجهة الحقيقة ليست سهلة، والاعتراف بالعيوب فعل شجاعة لا يقدر عليه إلا قلة، خاصة إذا كان الواقع كله يمتهن الزيف والكذب وخداع النفس والنفاق وقلب الحقائق والهروب منها، وكلنا بحاجة إلى مرآة الحقيقة دون طبطبة أو مكيجة.

فانتازيا

كان يرسم ويرسم، دون أن يجد شاريا للوحاته، وفجأة خطر له أن يقلد الرسام مارسيل دوشان الذي رسم الموناليزا بشارب، وقرر أن يرسم زوجته بشارب، انزعجت الزوجة، لكنها فرحت عندما بيعت لوحتها بمبلغ كبير، ورسمها مرة أخرى بلحية خفيفة، وبيعت اللوحة بسعر أكبر. أعجبت اللعبة الزوجة فطالبته بالمزيد، «فرسمها بشعر أسود قصير، وفي أخرى بساقين مكشوفتين وقد غطاهما شعر كثيف، وفي أخرى بحذاء طويل قذر وساعدين مفتولين». وذات صباح استيقظ، «حانت منه التفاتة إلى حيث تنام زوجته إلى جواره، فصعق عندما وجد شابا بشاربين منمقين ولحية خفيفة وشعر أسود قصير وساقين بشعر كثيف وحذاء طويل قذر وساقين مفتولين ينام مكانها».

لا يدرك الإنسان أن لكل شيء ثمنا؛ فقد استثمر في زوجته وتربح من ورائها الكثير برضاها وإصرارها، قدمها للناس بأشكال مسخ لا تليق بالمرأة ناهيك عن الزوجة، فانقلب السحر على الساحر، وتحول الرسم إلى حقيقة مجسدة تنام بجانبه. هكذا أراها للناس، فهو أولى بها منهم.

عندما يخرج الإنسان عن الفطرة، ويشوه الجمال؛ طلبا للمال أو المنصب أو الشهرة، فإنما يؤكد انحرافه وتشوهه وعبثيته، التي ستنعكس عليه في النهاية، ويتذوق ما طبخ للآخرين، وهو أحق بما فعل، و«على نفسها جنت براقش».

وتحذر القصة من تسليع المرأة، واتخاذها أداة للترويج والتسويق، كما هو حاصل اليوم وفي كل المجالات؛ ما يمت منها للمرأة ولا يمت، وهذا امتهان للمرأة وحط من كرامتها وقدرها ودورها الأساسي في الحياة، والمؤسف أن يتم ذلك برضى المرأة وسعي منها تحت مسميات ومبررات كثيرة؛ كالفن والحرية والعمل والمساواة وإشاعة الجمال وغيرها، وهذه عبودية جديدة مقننة للمرأة، بألوان زاهية ومغريات كثيرة تحت الأضواء البراقة الكاشفة!

أزمة مرورية

كان في طريقه إلى مقر شركته الكبيرة، وهو مشغول الذهن بالأرقام والصفقات والخطط والتطوير، عندما لمح جمعا من العمال تحت مطر خفيف يجلسون على الدوار، «مستغرقين في ضحك لا ينتهي، أسنانهم صفراء متباعدة، يلبسون قمصانا خفيفة تهدلت ياقاتها بعد أن بللها المطر» تباطأت حركته وهو ينظر إليهم، ودار حول الدوار ليعيد رؤية المشهد، وهو يسأل نفسه «لماذا يضحكون؟» ثم أوقف سيارته وسط الشارع، «فتح ذراعيه، ورفع رأسه للأعلى واستقبل المطر. انتظر التالي، لكن شيئا مما توقع لم يحدث؛ لم تتهدل ياقة قميصه، ولم تتباعد أسنانه البيضاء، والأهم من هذا أنه لم يضحك كما يضحكون».

الفرح والسعادة لا تصنعها الأموال ولا المظاهر ولا المناصب، بل البساطة والرضى والتوكل على رب العالمين، فهؤلاء عمال المياومة جلسوا على الدوار، ينتظرون أرباب العمل، علهم يحظون بفرصة، وتركوا أمرهم لله، فقد أخذوا بالأسباب وجلسوا تحت المطر، وبانتظار النصيب أخذوا يتبادلون الأحاديث والحكايات، ويضحكون ملء قلوبهم على الرغم من فقرهم ورثاثة ثيابهم وتواضعها، فهذه هي الوصفة التي تعينهم على مواصلة الحياة وتحدي ظروفها القاسية، لا تعنيهم الأرقام ولا الحسابات ولا الشركات العملاقة، وكل همهم قوت يومهم، يبحثون عن الستر، وما يقيهم مد اليد للغير. وظن المدير المسكين، الذي يعيش غريبا عن نفسه متخاصما معها، أن تقليدهم كافٍ ليعيش فرحتهم، لكن القلوب تختلف، والسرائر تختلف، والهموم تختلف، ومشاغل الحياة تختلف، بل النظرة إلى الحياة تختلف؛ فهم يعملون ليعيشوا كفاف يومهم، وهو يعيش ليعمل ويجمع ويراكم أرصدته، وشتان شتان.

المال والمنصب والسلطة والجاه سدود، حجب، تبعد الإنسان عن تفاصيل الحياة الجميلة، وبساطتها الآسرة، وناسها العاديين الأثرياء بالعفوية والنخوة والشهامة والحب دون حدود، ومحروم محروم من حرم الحياة بحرية وعفوية وبساطة وابتسامة عذبة، وإيمان مطلق أن المقبل أجمل، وأن الله لطيف بعباده، وأن الرزق مقدر، والسعي واجب.

وبعد؛ فإن «أُلْفة الوحْدة» لمجدي دعيبس، مجموعة قصصية متميزة، تشكل تجربة جديدة، وتطورا ملموسا في تجربته الإبداعية. كما أنها إضافة نوعية لفن القصة القصيرة في الأردن، شكلا ومضمونا، وتستحق الكثير من الدراسات لتغوص في نصوص القصص وما وراء النصوص، خاصة أن كل قصة تثير أسئلة وأفكارا، وتدعو لإعادة النظر والتأمل في كثير من الأمور؛ وجودنا ولماذا نعيش؟ وكيف نعيش؟ وإلى أين سنصل؟ وما الثمن؟

كاتب أردني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي