رسائل فوق المسافات والجدران: القدس… بيروت على حافة لقاء

2023-04-06

أحمد الحرباوي

تعكس الرسائل الحس الوطني العالي والقلق المرهف لطبيب الأسنان الفلسطيني أديب القاسم حسين مع المؤرخ والأديب اللبناني عجاج نويهض في القرن العشرين، أمام هذه المراسلات نجد أنفسنا أمام قلق وجودي واعٍ بكل ما يتهدد القضية بمركباتها المختلفة.

تعتبر الذاكرة التاريخية لأي شعب من أبرز المؤشرات وأهمّها في عملية الاستقراء التاريخي والاجتماعي لمكنونها المتفاعل والمتغير على مدار سنين أو قرون طويلة، وكل ما ينتج عن تلك العملية التفاعلية ضمن مستوياتها المختلفة، سواء أكانت مخرجات مكتوبة أو مروية فإنها تعتبر إرثا تاريخيا حقيقيا يعبر بشكل صادق وفعلي عن انتماء الفرد لقضاياه وهمومه ومشاكله على جميع الأصعدة في تلك الفترة، وهذا التباين في الحقب الزمنية مهم جدا، لأنه يعكس التفاعل الحقيقي للفرد ضمن سياق الماضي ليرصد لنا بشكل ضمني ملامحه السياسية والاجتماعية، وهذا يفضي بشكل حتمي إلى لمس التحولات التي طرأت في تغير خطاب الفرد أو المجتمع على صعيد الهوية والإنسان والانتماء وغيرها الكثير.

ضمن هذه المقدمة البسيطة نستطيع أن نلتمس أهمية هذا الكتاب للكاتبة الفلسطينية نسب أديب حسين، إذ يقودنا إلى فترة حساسة في تاريخ قضيتنا الفلسطينية، التي مرّت بتحوّلات كبرى عرفناها بشكل عام وسطحي، ولمسنا نتائجها دون أن ندرك تلك التفاصيل الصغيرة التي كانت القاعدة الأساس لتلك التحولات الكبرى على صعيد الخطاب السياسي والهوية الوطنية. إلى جانب مركبات المجتمع وتأثيرها في الفرد ضمن الخطاب العادي أو الثقافي أو حتى الإقليمي والعالمي، تعكس الرسائل الحسّ الوطني العالي والقلق المرهف لطبيب الأسنان الفلسطيني أديب القاسم حسين مع المؤرخ والأديب اللبناني عجاج نويهض في القرن العشرين، وأمام هذه المراسلات نجد أنفسنا أمام قلق وجودي واع بكلّ ما يتهدد القضية بمركباتها المختلفة، وأنّ كلّ ذلك القلق كان مبررا لأن ذلك الخوف المتواري بين الأحرف أصبح حقيقة نعيشها نحن الآن، فكيف خلال النصف قرن المنصرم تحوّلت الهواجس إلى واقع يفرض نفسه، وأصبح الماضي مجرد أحلام نتكهن تحققها مستقبلا، وأصبح النسيج الاجتماعي ومركباته المتعددة عبارة عن كينونات مستقلة تبحث عن انتماء وطني ثقافي خاص بها بعد أن تهتك النسيج الفلسطيني إثر قيام دولة إسرائيل على أنقاضه.

تحمل الرسائل التي بدأت بمحض الصدفة بين أديب حسين المولود في قرية الرامة الجليلة عام 1929 وعجاج نويهض المولود عام 1896 في قرية رأس المتن في لبنان ثمّ هجرته إلى سوريا ففلسطين ليعمل مع الحاج أمين الحسيني في المجلس الشرعي الإسلامي، ثم الخروج من منزله في القدس الغربية عام 1948 ليصبح شريكا في مأساة اللجوء والفقد والقهر. برأيي هذه المراسلات من أهمّ ما كُتب في النصف الثاني من القرن العشرين لما تحمله في ثناياها من سياقات مهمّة متعلقة بالقضية الفلسطينية وعلاقة الفرد المحلي والإقليمي والطائفي بها، إلى جانب الخطاب الثقافي والتيار الانتمائي وثيمات إقليمية متعلقة بالقضية حينها ضمن التيار العروبي القومي ومساراته في الوعي العام، ولكن هذه السياقات المضمرة في النص تحتاج تفكيكها من أجل رصد ملامحها وتحولاتها وبنيتها.

على مستوى السياق الإقليمي للقضية كان المشهد الثقافي العربي هو المؤطر العام للفرد العربي المنتمي إلى فكرة التحرر، فالرسالة التي أرسلها أديب إلى جمال نويهض، إثر إصدار روايتها «مواكب الشهداء» يأتي ضمن إطار علاقة غير مبتورة بين فلسطين ومحيطها، وهذه علاقة تبادلية لم تتجلى في حمل العربي لهمّ الكتابة عن فلسطين فقط، بل كانت هي نفسها حضنا علميا ثقافيا مهما، فعجاج نويهض أكمل تعليمه في فلسطين قبل النكبة، وهذا السياق العابر للحدود والاستعمار هو أصل للروابط الإنسانية بين الفلسطيني ومحيطه، تماما كما حدث بين نسب وبيان، وفي ظل الواقع الحالي المتشظي إقليميا والمتفكك داخل نفسه نلتمس أثر المشهد العربي الثقافي في الماضي والتفافه حول نفسه وحول القضايا العادلة، وهذا الوعي ينزاح نحو بنيات اجتماعية سياسية لم تتبلور بعد كما اليوم، لكن هذا التكامل المحلي الإقليمي كان يشحذ بصيرة المثقف لاستقراء المستقبل، فانتماء الدرزي الفلسطيني لجبل العرب، والتفاف دروز لبنان حولهما كما ورد في الرسالة المؤرخة بتاريخ 16/3/1964 كان من الممكن حماية الطائفة من الانسياق وراء الأكاذيب الصهيونية، من خلال سيطرة 3 عشائر درزية على الوضع القائم وانطلاقهم نحو التجنيد وإنشاء روابط الدم، فهذا البتر عن المحيط العربي والمرجعية التاريخية هو من أسّس لبتر الدرزي عن مجتمعه الفلسطيني، مقابل جهل باقي أطياف المجتمع الفلسطيني لخطورة هذا الانقياد وعدم محاولتهم الالتفاف حول بعضهم بعضا ولمّ الشمل، رغم المحاولات المحلية من خلال إنشاء منظمة شباب الدروز وغيرها العديد سعيا لمنع التصدع من التمدد، مقابل قيام بعض أبناء الطائفة بالبدء في التأسيس لقومية درزية، من خلال فصل المناهج وقبول التجنيد وغيرها العديد من الممارسات، ضمن سياق استعماري لتحويل الشرق الأوسط لدويلات دينية متنافرة.

تؤثث هذه المراسلات بين نسب وبيان لمتواليات الحكي للقصة والقضية التي تبدأ منها الحكاية، حكاية أديب العائد للبحث عن نفسه وعن القضية في كتابة الآخر، وهو في رحم مجتمع بدأ يشعر به يمضي نحو طريق مجهول وغريب، وعجاج المتابع بكل خوف لكل تلك التحولات.

في ظل هذا السياق نلمس دور «القدس» في تبني الخطاب الثقافي لمختلف الكتاب وانتماءاتهم ما دامت القضية الفلسطينية هي الخيط الناظم لهم، يظهر من الغلاف نشر رواية «مواكب الشهداء» في مطبعة المعارف في المدينة وكتاب «الهيام» في بيروت قبل أن تصبح شرقية وغربية، وهذه الفضاءات العربية أصبحت نموذجا لما يحصل في دول المنطقة ككل، فهل يمكن لأي فرد أو مثقف اليوم يحمل هموم وطنه أن يلتفت إلى قضايا الغير؟ هذا سؤال وجودي مهم يحمل في طياته قلقا من نوع آخر منتم إلى المستقبل وقيمه الإنسانية.

يحمل الفصل الأخير من الكتاب الذي يحمل ثيمة اللقاء المرتقب بين بيروت والقدس، من خلال مراسلات داخل العالم الافتراضي بين نسب وابنة عجاج نويهض، وهي الكاتبة والباحثة بيان نويهض الحوت، هذا اللقاء المبتور حتى من الممكن وسط تقسيمة الجغرافيا والإنسان والهويات، فجولة نسب في القدس الغربية أو المكتبة الوطنية الإسرائيلية للعثور على بيت عجاج نويهض المحتل وكتبه المنهوبة في أقبية الأرشيف الإسرائيلي مؤشر واقعي يدلّ على تعالي الفرد على الواقع، ومكوثه وسط أحلام محمولة على الزمن، والسؤال الذي ظل مفتوحا في النهاية هل يمكن للمستقبل أن يحتفظ بأي فرصة لمحاولة البحث عن الذات وعلاقتها مع الأرض والآخر أم أن الانطواء على آلام الذات وواقعها سينتصر في النهاية؟

في هذا السياق تؤثث هذه المراسلات بين نسب وبيان لمتواليات الحكي للقصة والقضية التي تبدأ منها الحكاية، حكاية أديب العائد للبحث عن نفسه وعن القضية في كتابة الآخر، وهو في رحم مجتمع بدأ يشعر به يمضي نحو طريق مجهول وغريب، وعجاج المتابع بكل خوف لكل تلك التحولات، وهذا جانب سوسيولوجي مهم قالته الرسائل، وهو طرح في غاية الأهمية لأنه حمل إلينا الذاكرة والتاريخ كخطين يسيران بشكل متواز، من خلال قضية لها فاعلين داخل حيّز جغرافي له ذاكرته الجماعية، وله ملامحه الخاصة، لتنتقل تلك المراسلات إلى السياق الاقليمي لتلتحم فيه، لنرى أنفسنا اليوم أمام مسافة جيّدة مكنتنا من رؤية جدليات مهمّة عن الواقع الاجتماعي والديني والوطني، وحتى النفسي، هذه الرسائل على قلّتها لها أهمية كبيرة لأنّها تشخص الواقع وتفتح أفق الحاضر نحو أسئلة وجودية لها أكبر تأثير في ما سيأتي.

كاتب فلسطيني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي