في رواية «عبقر»: تاريخية الإطار وحكائية المحتوى

متابعات - الأمة برس
2023-04-03

سلمان زين الدين

على الرغم من تصدير الكاتب العراقي جمال البدري روايته الجديدة «عبقر» بالإشارة إلى أنها رواية حقيقية تجري أحداثها في الجزيرة الفراتية في القرن التاسع عشر، ما يشي بتاريخية الرواية وواقعيتها، فإن التوغل في متن الرواية يفصح عن رواية تخييلية بكل ما في الكلمة من معنى، سواء على مستوى الفضاء الروائي أو الشخوص أو الأحداث، ذلك أن الرواية بعتباتها وفصولها هي أقرب إلى التخييل منها إلى الواقع، فالمكان ليس جغرافيا والزمان ليس تاريخيا والشخوص وظيفية والأحداث حكائية تنحو نحو الواقعية السحرية، وبذلك، نقع على مفارقة أولى بين التصدير والمتن.

صراع أقاليم

«عبقر» الصادرة عن «مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع» العراقية، هي الرواية السادسة لصاحبها، بعد «رجال الظل» و»حارة سوق اليهود» و»النبوءة» و»إلقاء القبض على الهواء» و»الرقيم». وجمال البدري باحث وكاتب ودبلوماسي عراقي أصدر أكثر من عشرين كتاباً في حقول معرفية مختلفة، آخرها «عبقر» موضوع هذه القراءة. يتناول فيها الصراعات بين الأقاليم المتجاورة، في المنطقة الجغرافية المحددة في التصدير بالكلمات والخريطة. ويفعل ذلك بطريقة تخييلية، لا توهم بالواقع بل تحيل إليه، ولا تؤرخ للحظة لكنها ترويها، وشتان ما بين الرواية والتاريخ. وهو ما نتلمّسه في العتبات النصية والمتون السردية/ الحوارية.

عتبات نصية

في العتبة الرئيسية، «عبقر» وادٍ سحيق في اليمن سكنته الجن، واقترن اسمه بالشعراء الجاهليين، فكان لكل منهم قرين من سكانه يلقّنه الشعر، حسب المرويات التاريخية. غير أنه في متن الرواية هو حصان أسود اللون يستهوي الملوك، ينتمي إلى الزمان لا إلى المكان. وهو قمر البراري الذي لا يخشى الوحوش. وهو اسم فرس قديم وأصيل ومَدَدٌ ضد الظالمين، وبذلك، يفارق الاستعمال الروائي الاصطلاح التاريخي. أمّا في العتبات الفرعية فيتخذ الروائي من بحور الشعر، الطويل والبسيط والوافر والمنسرح، عناوين فصول الرواية الأربعة، ما يطرح سؤال العلاقة بين الرواية والشعر. غير أن العلاقة بين هذه العتبات وتمظهرها في النص هي علاقة لغوية، تشترك فيها العتبات والمتون في الدال وتفترق في المدلول، فالبحر أيضاً تسمية تطلق على الخيل (السوابح) لتشابه حركات جريها مع حركات السباحة و»كتائب الموج المتواصلة مع الريح والحركة والغضب» ما يعني أن أسماء البحور الشعرية هي صفات لأنواع جري الخيل، وبذلك، تطابق المتون العتبات في الدال، وتفارقها في المدلول.

متون حكائية

بالانتقال إلى المتون، يطغى البعد الحكائي في «عبقر» على البعد الروائي، فنجد أنفسنا إزاء حكاية تخييلية، تتبع خطية زمنية متتابعة، ما خلا استباقات قصيرة في بعض المتون. تجري أحداثها في أمكنة متخيلة، من قبيل: مملكة المكان، إمارة السَّحَرة، إمارة الغجر، ذات الروابي، نهر السلام، جبال الأقواس، وغيرها. وتتسم الأحداث بالغرابة والسحرية، بينما تجمع الشخوص بين الواقعية والمتخيلة. على أن العلاقة بين أجزاء الحكاية تتراوح بين التسلسل الطبيعي للأحداث، من جهة، والوقائع المفاجئة التي تشكل منعطفات في مجرى التسلسل ويكون لها ما بعدها من أحداث، وما يبنى عليها من وقائع. وفي إطار الخطية التي تنتظم الأحداث، تتعاقب المشاهد السردية والحوارية ضمن الفصل الواحد، وحتى ضمن الصفحة الواحدة. ويتم الانتقال من مشهد إلى آخر دون سابق إنذار، ودون وجود قرينة تستدعي ذلك، ودون وجود فاصل إخراجي بين المشهدين، في معظم الأحيان. ويتم، في بعض الأحيان، لوجود قرينة لفظية أو معنوية أو شخصية تبرّر الانتقال. وفي الحالتين، تضفي هذه العملية التنوع والحيوية على النص، وتجعله أشبه بسيناريو تلفزيوني قابل للتمثيل.

أمكنة متخيّلة

تجري الأحداث في «عبقر» في مملكة المكان وإمارتي السحرة والغجر المجاورتين لها وإمارة المماليك البعيدة عنها، في القرن التاسع عشر، بنسب متفاوتة بين مكان وآخر مع الإشارة إلى أن النسبة الأكبر منها تجري في المكان الأوّل. وغنيٌّ عن البيان أن هذه الأمكنة الروائية هي أمكنة متخيّلة توجد في مكان جغرافي عام هو الجزيرة الفراتية، وأن الأزمنة الروائية غير محددة بدقة في إطار الزمان التاريخي العام. وتبدأ باجتماع يعقده ملك مملكة المكان لكبار معاونيه ومستشاريه لبحث سبل التصدي لإمارة السحرة المتمرّدة على المملكة والمنشقة عنها، التي أدى فشل الجيش الملكي في تأديبها وإعادتها إلي بيت الطاعة إلى انتحار قائد الجيش. وتنتهي بانقضاض الحصان «عبقر» ضابط المخابرات المملوكي أسيلاش المنتحل اسم برقان الصقلي، في الساحة العامة، والرقص على جسده بقوة حتى سكن الجسد مضرّجاً بدمائه، قبل تنفيذ حكم الإعدام به. وبين البداية والنهاية مجموعة من الأحداث والوقائع الروائية، المنتظمة في عدة أسلاك سردية تتجادل في ما بينها وتشكّل جديلة الرواية. وعليه، الرواية هي مجموع الأحداث الجارية في إطار التحضير للمعركة الكبرى الفاصلة مع إمارة السَّحَرة المتمرّدين.

شخصيات نموذجية

في هذا الإطار، وبانتظار تحديد ساعة الصفر للمعركة الكبرى، ثمة استعدادات، على غير صعيد، ومعارك جانبية، وتحالفات ودسائس ومؤامرات تجري على هامش التحضير. تنخرط فيها مجموعة كبيرة من الشخوص بأدوار متفاوتة، ومن مواقع مختلفة. ويمكن تصنيفها في فئتين اثنتين، الأولى تدافع عن المملكة وتحرص على تطبيق النظام، والثانية تهاجمها وتخطط للاعتداء عليها. وفي كل من الفئتين تتعدد الشخوص وتختلف المواقع والأدوار. وتنجلي المعارك، في نهاية المطاف، عن نتائج معيّنة. تندرج، في الفئة الأولى، مجموعة من الشخصيات النموذجية في أداء الأدوار المسندة لها، وتمثل قيم الوطنية والإخلاص والحوكمة ومنها:

– الملك الذي يتفانى في خدمة المملكة، ويكرّس وقته للحفاظ عليها، ويحرص على الرعية، ويقوم بتفقد أحوالها متنكّراً، ويعقد الاجتماعات الاستشارية، ويقود الجيش، ويعاقب الخونة، ويهتم بأسرته، ويوظّف الشأن الأسري في خدمة الشأن الملكي العام.

– نائب قائد الجيش يوسف بن يعقوب الفلكي الذي يمتلك قدرات خارقة، ويحظى بثقة الملك والحاشية، وينجح في فك التحالف بين الإمارات المتآمرة على المملكة، ويصاهر الملك، ويتقن الفروسية والتخفّي وترويض الجامح من الخيل، ويجمع بين القوة والدبلوماسية ويستخدم كلًّا منهما في المكان المناسب.

– رئيس المخابرات الذي يخلص للملك، ويسدي له المشورة، ويفتح عينيه على ما يُحاك للمملكة من دسائس ومؤامرات، ويمتلك فراسة التمييز بين الأشخاص، ويسهر على أمن المملكة.

– «عبقر» الحصان الأسود العصي على الترويض الذي يسلس القياد ليوسف بعد أن اشتمّ فيه الفارس الشجاع، ويكن الحب لصاحبته الأميرة جنوب حبيبة يوسف، وينتقم شرّ انتقام من ضابط مخابرات المماليك الذي تدبّر سرقته من الإسطبل واحتجازه في سرداب تحت الأرض. ناهيك بالملكة الأم وبناتها الأميرات الأربع والوزراء وشيوخ القبائل وبعض حكام الأقاليم ممّن يخلصون للملك، ويدينون بالولاء للمملكة.

شخصيات واقعية

في المقابل، تندرج، في الفئة الثانية، مجموعة من الشخصيات المفرطة في واقعيّتها التي تتربّص بالمملكة شرّا، وتتحيّن الفرصة المناسبة للانقضاض عليها، وتمثّل قيم الخيانة والتآمر والتجسس. وهي شخصيات خارجية وداخلية تتواطأ في ما بينها لتحقيق أهدافها. ففي الخارج، ثمة أمراء السَّحرة والغجر والمماليك المتحالفون ضد مملكة المكان. وفي الداخل، ثمة يعفور حاكم إقليم الجنوب الذي يسعى للاستيلاء على الملك، وبرهوت مساعد سائس الخيل الملكي المزروع في القصر المتواطئ معه، والنقيب في الحرس الملكي شومان أبو الترس، وشرحبيل سائس الإسطبل الملكي، وأسيلاش ضابط المخابرات المملوكي، وغيرهم، ناهيك بأدوات تستخدمها هذه الشخصيات.

معارك جانبية

في إطار التحضير للمعركة الكبرى، تندلع معارك جانبية بين الفئتين، يتمظهر خلالها الصراع بين المملكة وأعدائها بـأشكال مختلفة، يتم خلالها إسقاط أدوات الأعداء تباعا بعد اكتشافها، من جهة، وتدفع المملكة الأثمان الباهظة، من جهة ثانية، ما يشي بانتصار المملكة على الإمارات المعادية لها، ووضع الأمور في نصابها، وتصويب حركة التاريخ. ولعل انتهاء الرواية بواقعة انقضاض الحصان عبقر على الجاسوس أسيلاش في الساحة العامة والرقص على جسده حتى الموت يشكل مؤشّرا على انتصار مرحلي يرهص بنتيجة المعركة الفاصلة التي تنتهي الرواية قبل حصولها.

أسئلة الرواية

بناءً على ما تقدّم، يطرح البدري في روايته الجديدة أسئلة تاريخية، في إطار حكائي تخييلي غرائبي أحيانا، ما يخفّف من واقعية التاريخ ويضفي على الرواية تخييلية الحكاية. وهي أسئلة الجوار بين الكائنات السياسية المختلفة، والوطنية، والحوكمة، والدبلوماسية، والإخلاص، والخيانة، والتآمر، والحرب. ولعل تذييل الروائي روايته بالقول: «لقد انتهى القرن (19) ومملكة المكان قلقة بين تضاريس جغرافيا الغرب والشرق، وهي مصطرعة في الآفاق والأعماق والأحداق.. حتى وقوع الحرب العالمية الأولى» يثبث أن تلك الأسئلة لا تزال مطروحة. فهل نعدو الحقيقة التاريخية إذا ما أسقطنا حالة الجزيرة الفراتية على العالم العربي؟

كاتب لبناني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي