في رواية «نهاية الصحراء»: عن مدينة صغيرة كانت منتصرة

حسن داوود

يُتداوَل السرد على ألسنة شخصيات الرواية جميعهم، أو على الأقل من لا يزالون أحياء منهم. وهؤلاء، شخصيّات الرواية وساردوها، أو رواتها، كثيرون، إلى حد أن قارئها عليه أن يرجع صفحات إلى ما سبق حتى يُعيد تذكّر حادثة أو حوار، أو حتى إسم. شخص واحد يشذّ عن هذا التوزيع المتساوي للإمساك بزمام الكلام، إذ بدلا من كتابة اسمه في مطلع الصفحات نقرأ تاريخ اليوم (9 سبتمبر/أيلول مثلا ، بدلا من إبراهيم درّاس). إنه متعهد التسلسل الزمني لوقائع الرواية وأحداثها. سوى ذلك، درّاس هذا لا يعدو كونه واحدا من الشخصيّات، مساويا لها، طالما أن لا بطل واحدا في الرواية. لا يزيد حضوره فيها عن حضور الآخرين، سواء الموتى منهم أو الأحياء. إن سعى القارئ إلى تمييز شخصية عن شخصيّات الرواية الأخرى، فسيفكّر أولا بإيلاء البطولة إلى زكيّة، أو زازا، الراقصة والمغنيّة، على الرغم من أن الرواية تُفتتح بجثّتها ملقاة في خراج تلك المدينة الصغيرة. ذاك أن الرواية تدور، بين محاور أخرى، على حياة تلك المغنية وموتها مقتولة. ذلك هو الجانب البوليسي من الرواية، الممسك بتعاقب حلقاتها. لكننا لسنا فقط إزاء ما يجري حول تلك الجريمة ومَن هو الضالع أو الضالعون فيها، فالرواية تتشعب حاضرا (ومدار ذاك الحاضر هو سنة 1988) وتاريخا وسياسة واجتماعا يتعدّى حاضر تلك البلدة ليتناول زمن ما بعد حرب التحرير، واستقلال الجزائر.

سنوات كثيرة انقضت على ذاك الانتصار، وها نحن في الجيل الذي أعقب جيل أبطاله وفدائييه. ابراهيم درّاس، أو الشخص المؤرّخة به الحقب، حسبما هو مذكور أعلاه، يظلّ مع تتالي فصول الرواية باحثا عن دليل يؤكّد به مشاركة أبيه في النضال ضدّ الفرنسيين، ولا يوصله سعيه إلى شيء. ما كان يبغيه من ذلك هو أن يحظى بتلك البطاقة التي تعطى لأبناء الشهداء: «تلك البطاقة سوف تعينني في نيل إعفاء من الخدمة الوطنية، وتنجّيني من ذلك الوسيط الذي يسلبني ما أكسب، وسوف تساعدني في تحصيل وظيفة أنشدها أو في تسهيل مشروع تجاري». وها هو ينتظر تحقّق مرتجاه قابعا في محلّ صغير يؤجّر فيه آلة الفيديو وشرائط الأفلام وبينها، بل أكثرها اهتماما من قبله وطلبا من زبائنه، الأفلام الخلاعية. من هناك إذن، يتتبّع درّاس ما يجري في البلدة أو المدينة الصغيرة. أما فندق نهاية الصحراء الذي تحمل الرواية اسمه، فهو المكان الآخر، حيث لا تُراقب فيه الأحداث، بل حيث هناك تحدث. جريمة قتل زكية المغنية حدثت هناك، أقصد هناك بدأ حدوثها وهناك مكان تدبير القتل. كما هناك انتحار، أو اغتيال ربما، حصل قبل مقتل زكية. بشأن الجريمة الأخيرة، الكل وضعوا في مظنة القتلة. أولهم بشير، حبيبها وواعدها بالزواج، الذي أودع السجن لاعتباره أول مّن اشتبه فيهم. الآخرون، مثل صاحب الفندق ومديره ستتضح أدوارهم لاحقا، لتنكشف في الصفحات الأخيرة من الرواية.

الاشتباه يصل إلى كل من عرفوا زكية أو أعجبوا بها أو افتتنوا بصوتها وبجمالها، أو كانوا من أهلها، ومع هؤلاء الأخيرين قام الاشتباه على غسل عار العائلة والثأر لفضيحتها. ثم هناك التحاسد بين مغنيات سابقات ومغنية مرافقة أقل إعجابا من قبل الزبائن. أمام هذه الاحتمالات الكثيرة كل من حضر في الرواية واقعة عليه الشبهة: «لست وحدي من كتم صوت زكية…» يقول كمال قاتلها، «بل شاركتني حبيبتي تلك الفعلة، مثلما شاركنا فيها أخوتها الذين نبذوها، بشير الذي أخلف وعده بالزواج بها، الشيخة ذهبية التي كادت لها، ميمون الذي زاد من غرورها، إبراهيم الذي زرع في قلبي رغبة الانتقام منها، وحميد الذي أوهمها بحمايتها».

هناك درجة من الحيوية في السلوك العنيف والانتقامي لجميع شخصيات الرواية وبينهم هؤلاء الغاضبون «الذين من السهل حقنهم بهورمونات الفوضى». ذلك الزمن الذي سبق، زمن القتال والشهادة، استؤنف بالخطأ والتشتّت وفساد العيش. في أحد مقاطع الرواية تتداخل، بل تتآخى المعتقدات الأخلاقية والدينية مع السلوك البشع والإجرامي في رأس أحدهم، هو فضيل، أو الفأر كما يلقّب، الذي يكلّف شخصا بمراقبة أخت صديقه خوفا من أن تخرج مع زبائن المشرب، والذي يكسر قفل محل إبراهيم لأن والده كان عميلا للاستعمار الفرنسي، ومع ذلك، إذ لا يجد شيئا يسرقه من بيت امرأة عجوز، يبدأ بتعذيبها وربطها بالأغلال ونزع أظافرها بالكلابة. وفضيل هذا يتساءل بينه وبين نفسه عن الجرادة التي ورد ذكرها في القرآن: «هل سيعذّبني الله لأنني أسحقها حيث أجدها».

لا تستحق المرأة العجوز ما حصل لها، والمعتدي ما زال هاجسا بالعقاب الإلهي، وزكية لم تستطع العيش، قبل مقتلها، دون اللعب على حبال كثيرة، وميمون صاحب الفندق حصل بالزيف على ما حصل عليه، وهو بالتواطؤ مع آخرين شاركوا في قتل والد إبراهيم درّاس الذي كان «من أوائل الملتحقين بحرب التحرير». وها هو ميمون يقول:» دفنّا درّاس سرّا في جبّانة النصارى، وأشعنا عنه أنه خان الثورة وأفشى أسرارا للمستعمرين».

ليست تلك المدينة الصغيرة حسب، ولا أولئك الأشخاص الذين يعيشون فيها، رواية نهاية الصحراء تتسع لتشمل صورة زمن كامل وجغرافيته العريضة وبشره الكثيرين.

رواية سعيد خطيبي «نهاية الصحراء» صدرت عن دار نوفل في 316 صفحة سنة 2022.

كاتب لبناني