«جماليات شعر العامية» للمصري أحمد مجاهد: التعبير عن الروح الشعبية والجفاء النقدي

2023-03-30

محمد عبد الرحيم

«ما شُفت أبلغ من شواهد القبور

السر في سحر البلاغة قوة الإيجاز

والكشف عن عالم بحاله في تلات كلمات

زي اتولد.. وعاش.. ومات». (فؤاد قاعود)

يمثل شعر العامية الروح الشعبية للمصريين، وربما هو الأصدق والأكثر تواصلا مع المتلقي، سواء كان قارئا أو مُستمعا، خاصة أن أكثر هذا الشعر قد صاغ وعبّر عن وجدان الشعب المصري من خلال الأغنيات والمحافل التي تقترب كثيراً من محافل شاعر الربابة القديم، وما كان يحكيه من سيرة وبطولات غابرة. من ناحية أخرى يمثل هذا الشكل الشعري وجهة النظر الانتقادية في وجه (السُلطة) أياً كانت، سياسية أو اجتماعية، بمعنى أنه يتحول إلى صوت الضمير الشعبي، أكثر من كونه كتابة بلاغية وأسلوبية، وهو بالطبع لا يخلو منها، بل يتجاوز الكثير من قصائد الفصحى لغة وبصيرة.

لكن.. هل يجد هذا الشكل الشعري ـ رغم تأثيره ـ مكانه على الساحة النقدية؟ من هذا السؤال ينطلق الناقد والأكاديمي المصري أحمد مجاهد في دراسته الصادرة مؤخراً عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة (كتابات نقدية) والمعنونة بـ»جماليات شعر العامية.. بين الإبداع والتلقي».

موقف الدولة وتواطؤ مؤسساتها

ويجيب مجاهد في مقدمته بالنفي، فهذا الشعر لم يزل مُهمشاً على المستوى النقدي والأكاديمي، ويُرجع بعض أسباب ذلك إلى أن «رواد الموجة الأولى والثانية من شعرائه ينتمون جميعهم تقريباً إلى اليسار السياسي، وأن أغلبهم كان معتقلا سياسيا لبعض الوقت، وكأن مؤسسات النشر الرسمية والمؤسسات الأكاديمية، تضافرت مع موقف الدولة السياسي منهم». ومن وجهة النظر هذه تأتي الدراسة الأكبر في الكتاب عن الشاعر زين العابدين فؤاد ـ تقارب الـ70 صفحة من 188 صفحة، عدد صفحات الكتاب ـ التي يراها مجاهد وفق منهجها تصلح بالتطبيق على الشعراء الآخرين، الذين يتناولهم الكتاب بالدراسة، وهم.. بيرم التونسي، فؤاد حداد، صلاح جاهين، عبد الرحمن الأبنودي، سيد حجاب، فؤاد قاعود، وأحمد فؤاد نجم، إضافة إلى لفتة إلى أمير الشعراء أحمد شوقي، وقصيدته العامية الأولى بمناسبة زواج ابنه، والتي عارض فيها أغنية الأفراح الشهيرة (يا عُشاق النبي) التي كتبها أمين صدقي ولحنها سيد درويش.

حوار الأيديولوجيا والفن

تحت هذا العنوان يتعرّض الناقد إلى ديوان «صفحة من كتاب النيل» للشاعر زين العابدين فؤاد، الذي يضم قصائد متنوعة نشرت في الفترة ما بين 1962 و1992 عام نشر الديوان. ومنه يتم الكشف عن الأيديولوجيا التي ينتهجها الشاعر، بوصفها نظرية سياسية، وهي الماركسية ـ لا ينسى الناقد المقارنة بين ماركسية زين العابدين فؤاد واشتراكية وقومية صلاح جاهين ـ التي لا يخرج عنها في كل أشعاره، ليصبح بدوره نموذجا للثوري المتفائل، فيقول:

«يخرجوا الفقرا يهزوا الأرض/يسكر الإسمنت من خمر الخطاوي/ينشق جوف الأرض من ورد الغضب/تقوى كفوفنا ويّا بعض/تنسال الغناوي/بحور لهب».

لكن هذا التفاؤل قد تصيبه حالة من حالات اليأس، فيقول:

«فلاحينك هُمّا هُمّا

فلاحين رمسيس وخوفو

جيش

لا عيش

ولا زمزميّة

في الهجيرة تبل جوفه

المرض للموت يجُرّه

وهو ماشي يجُر خوفه

أعمى سالك سكة عتمة

خطوته على قد شوفُه».

لكن هذه الحالة لا تستمر ولا تتمكن من الشاعر، خاصة أنه لا ينتقد أبداً الطبقات الشعبية، ويأمل في تحقق ثورتها، رغم دخوله السجن، وينسج من الخاص عاما وبالعكس، فيقول:

«بسمة ما بتعرفش تقرا

بس بكرة، بسمة جيل

جيل بيزرع مصر ثورة

ينهي مشوارها الطويل».

مثلما تغنى الشيخ إمام بكلمات زين العابدين فؤاد، التي من أشهرها .. (إتجمعوا العشاق في سجن القلعة) و(الفلاحين) تغنى كذلك بكلمات الشاعر فؤاد قاعود ـ من مواليد 5 أبريل/نيسان 1936 ـ التي من أشهرها.. (وهبت عُمري للأمل) (على الربابة) و(أحزان القرد) نستطيع أن نلمح حالة الحزن المتمكن من قاعود، والانتصار لقضايا البسطاء، دون جعجعة سياسية وطنطنة ثورية، تعجب دراويش الصخب. فالرجل ينتمي إلى فئة شعبية بسيطة ـ عامل تليفونات كما يذكر مجاهد ـ ورغم نشر قصائده الأولى عام 1960، من خلال صلاح جاهين ومجلة «صباح الخير» إلا أنه لم ينشر ديوانه الأول إلا عام 1977. ويُرجع مجاهد هذا إلى مواقف الرجل السياسية، ورد الفعل، سواء من خلال التعتيم، وصولاً إلى الاعتقال في عامي 1972 و1973.

وكانت للرجل رؤية واضحة للشعر، ليس فقط من خلال دوره ووظيفته في الحياة، لكن من خلال اللغة والأفكار، فيقول قاعود في مُسمى (اللغة العامية): «لقد آن لنا أن نتخلص من هذا الخطأ الشائع والوهم الباطل، فليس هناك شيء في هذا الاسم، هناك لغة واحدة هي العربية، وليست لهجتنا إلا قراءة مصرية للعربية». من ناحية أخرى يُشير مجاهد إلى غرام الرجل بالفلسفة، وأن يقوم بإعادة صياغة كلمات أبو العلاء المعرّي الفصيحة، مثل قوله: «غير مُجد في ملّتي واعتقادي/نوح باك ولا ترنم شادي/وشبيه صوت النعي إذا قيس/بصوت البشير في كل نادي». فيكتبها قاعود هكذا.. «زغاريد دي ولا صوات ما دلّوني/ونزلت أجري بهمة وعناية/لقتني ناسي هُمّا بعتوني/لجل الحنوتي ولا للداية». ونراه يتماهي ويُجسد مشاعر (الغلابة) الساعين إلى الرزق بشتى الطرق، ويحاولون الفرار من السُلطة ومحاولة استعطافها، حتى لو تمثلت في شخص مُحصّل الترام أو الأتوبيس (الكُمساري) فيقول:

«يا كُمسري

يا كُمسري

يا نُص عسكري

مسيح مع الغني

وعالغلابة مُفتري

سيبني أبيع لتغضب السما

وواد رضيع ما لوش لبن يضيع». (من ديوانه البيّاع)

مفارقة الشعري والسياسي

ونأتي إلى فؤاد حداد «والد الشعراء» كما قال عن نفسه، الذي كان يناضل من خلال أشعاره أيام الاحتلال الإنكليزي لمصر، ناقماً على الإنكليز والملك. ونتوقف أمام موقفه من زمن عبد الناصر ـ كغيره من مثقفي تلك الفترة ومَن أورثوهم تلك اللعنة من أجيال متتالية، حتى ينتسبوا للثقافة ـ يتم سجن فؤاد حداد في زمن عبد الناصر بتهمة (الشيوعية) من 1953 إلى 1956، ثم من 1959 وحتى 1964، رغم كونه من أول الشعراء الذين احتفوا بالثورة! ويذكر مجاهد أن سجن عبد الناصر لفؤاد حداد لم يمنعه ـ الأخير بالطبع ـ من تغيير مشاعره نحو تأييد مبادئ الثورة، حتى إنه احتفل بعيدها العاشر من داخل المعتقل، كما لم يكتف بذلك، بل شارك الجموع التي خرجت في 9 و10 يونيو/حزيران 1967 لمطالبة عبد الناصر بعدم التنحي، فيقول:

«أقرب قلب يا قلب الوالد

كلنا خالد.. رايح فين؟

إحنا نشيلك جوّه العين»

ويرى مجاهد أن «عبد الناصر بالنسبة لفؤاد حداد لم يكن شخصاً ليكرهه، بل كان حلماً بالتحرر من الاستعمار والملكية، وأُمنية بانتصار الاشتراكية على الطبقية، وطموحاً إلى وحدة عربية قومية تُحرر فلسطين». ولا ننسى صلاح جاهين بدوره، الذي كتب في المناسبة نفسها ـ هزلية التنحي ـ قائلاً:

«ناصر يا حرية..

ناصر يا وطنية..

ناصر يا روح الأمة العربية».

ونأمل أن يقوم أحد المختصين بدراسة نفسية هؤلاء، الذين رغم موهبتهم ووعيهم لا يستطيعون مفارقة دُماهم كالأطفال.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي