البطل المهدور والرجيم في رواية «محاولة عيش» لمحمد زفزاف

2023-03-29

ناصر الحرشي

بأرت رواية «محاولة عيش» سردها على إشكالية البطل المهدور وهو هدر إنسانية الإنسان، وعدم الاعتراف المسبق بكيانه وكينونته كشرط مؤسس وملزم للاحتفاء بقيمته مكانة وحصانة وقدرة ووعيا. ولكل بطل من أبطال هذه الرواية الصغيرة الحجم ( 95 صفحة) نصيبه من الهدر الذي يتنوع في الشكل والمقدار، ما يعطل ويعيق مشروع بناء حياة وصناعة مستقبل لهم. يتمثل الهدف العام من سردية «محاولة عيش» الوعي الكامل بحالات الهدر الظاهرة منها والخفية، وكشف آلياتها كخطوة لازمة لفهم واقع البطل حميد بائع الجرائد المتجول وأسرته المعدمة، التي تقطن في أحد (البرارك) أي في أحد أحياء الصفيح في مدينة الدار البيضاء، وهو سكن غير لائق ولا يليق حتى بالحشرات. بلغة فضائحية تنضح مرارة وتضع مبضعها على الجرح يكتب محمد زفزاف أبطاله، وهم في غالبيتهم ينتمون إلى الهامش وعوالم المجتمع السفلية. يقدم صاحب «بيضة الديك» لوحة قاتمة شديدة الحلكة عن سكان أحياء القصدير هؤلاء الموتى الأحياء وهم يصارعون شظف العيش، يلهثون وراء الرغيف، وهي صورة معبرة عن كائنات لا صوت لها هؤلاء الذين يفتقرون لأبسط شروط الحياة. هناك إذن مأزق بنيوي حقيقي في عالم الهدر الذي يعاد إنتاجه باستمرار، يعيشه بؤساء هذه الرواية التي تتحدث عن محاولة عيش، أي مجرد محاولة من أجل البقاء لهذه الشخصيات الهلامية التي يغوص الكاتب في زواياها المعتمة، مظهرا سيكولوجية الإنسان المقهور واستقصاء حالات استلابه على مستوى المسار والمصير، ملتقطا أسباب الظاهرة على مستوى الدلالات الوجودية والاجتماعية التي يتداخل الخاص فيها بالعام، هدر تتزايد وطأته على حميد وأسرته وأصدقائه ثم المومس التي ارتبط بها بائع الجرائد، وأحبها وتعاطف معها، والتي بدورها تعلقت به وساعدته على اتمام زيجته الفاشلة مع فيطونة العرجاء ابنة الجيران، جولاته الليلية في الخانات لكسب عيشه من بيع الجرائد للسكارى من مغاربة وأجانب، دائما تنتهي بشجارات، ثم مطاردة الشرطة له ولشلته هو، جحيم يومي كان يعيشه حميد بمعية رفاقه وهم يسعون لكسب رزق صعب المنال، قدّر له أن يكون في فم أفعى. عانقت هذه الرواية قضايا مسكوت عنها في الواقع المغربي حيث تعشش البطالة والقهر والهدر والفقر والدعارة. ثم التوترات الاجتماعية المتزايدة في مجتمع لا يزال خارج التنمية الاجتماعية، كما أشار إليها الكاتب. النص يكشف ويعري مجتمعا راصدا خصائصه ودينامياته نكباته ونكساته. وقد جعل من هذا العمل الإبداعي سردية من سرديات العلة، أي يلاحق علل الناس وأشكال هدرهم بعد أن كان الأدب الروائي المغربي لا يزال في المقاعد الخلفية من حيث التعاطي مع هذه المشكلات. بلغة بسيطة بعيدة عن الإنشاء والبلاغة تناول محمد زفزاف قضية هؤلاء الذين يقبعون تحت في القاع، أولئك الذين لا يسمع عويلهم وصراخهم. بدءا بحميد الفني الذي يبلغ 16 عاما وهو صوت من أصوات ضحايا سياسات الهدر ثم المومس غنو، الأب حسن والأم والأخوة، الضاوي وفيطونة وأسرتها ثم صوت الجلاد المقدم، الخليفة، القائد، الشرطة، الجنود الأمريكيون وحراس الميناء. ثم صوت الجشع الرأسمالي والاستغلال المتمثل في اليهودية الثرية صاحبة الحانة وأعوانها.

وسط هذه الدوامة عاش حميد كبطل مهدور يحمل في داخله جرثومة ضياعه، التي طالت جل مجتمع الرواية، حيث كان يمارس عليه كل شيء من أجل سد الرمق، في محاولة عيش باتت نهايتها وشيكة متحولا إلى كيان مباح ومستباح. جاهد الروائي والقصاص محمد زفزاف في محاولة عيش الدفاع عن أبطال الهامش سعيا منه في بناء اقتدار المعدومين والمستضعفين وصولا إلى كشف آثار الهدر السلبية والمعطلة. ويعود حميد أخيرا بعد اكتشافه فقدان عروسه لعذريتها بعد الدخلة إلى أحضان بائعة الهوى غنو، هذه الإنسانة المهدورة الطافحة نبلا ونقاء روحيا، ليتخذ منها موئله ووطنه وليدفن في صدرها لواعجه وجراحاته.

كاتب مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي