رواية «فارابا»: فضاء السَّرد وحريته في مواجهة إشكالية العلاقة مع التاريخ

2023-03-26

مروان ياسين الدليمي

دائما ما أجدني منحازا نحو منطقة خاصة من الكتابة، يسعى فيها مؤلفوها للخروج من دائرة التصنيف التجنيسي الأكاديمي، والدخول بها صوب مغامرة فنية تملك قوة عناصرها الخاصة بها، ليس بهدف إعلان التفرد عما هو سائد من منظومة اعتادت أن تقولب الكتابة في نسيج واضح المعالم، بقدر ما هي استجابة ذاتية تستوفي شروطها الفنية من عالم داخلي، عادة ما يتشكل جراء خبرة معرفية متراكمة تبلورت تقنياتها وسماتها في إطار التفاعل بين المبدع والحياة، بالتالي تأتي مثل هذه المحاولات أقرب إلى جوهر الفعل الإبداعي من غيرها، وأنا في هذه المقدمة أشير إلى رواية « فارابا» للمؤلف عبد المنعم الأمير الصادرة عن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين عام 2022 .

أسئلة لا بد من طرحها

عادة ما يطرح المتلقي السؤال الآتي: «ما الإضافة التي سيقدمها العمل؟ يأتي ذلك بعد قراءة أي عمل أدبي يحاكي تجربة واقعية ما تزال تفرض تداعياتها على الواقع المعاش، كما هو الحال مع سقوط مدينة الموصل العراقية تحت سلطة تنظيم الخلافة (داعش) في العاشر من حزيران /يونيو2014 وبقائها خاضعة لسلطته فترة زمنية تصل الى ثلاث سنوات، ولم ينته سقوطها عند حدود المفهوم العسكري، بل تجاوز ذلك إلى بنية معقدة بأوجه ثقافية واجتماعية وسياسية ونفسية، خلّفت وراءها جراحا عميقة في الوجدان، ليس من الصعب نسيانها أو تجاوزها لعشرات السنين .

أمام هذه التجربة الواقعية التي ما زالت شاخصة للعيان أسبابها وشخوصها وآثارها، كيف للسارد المبدع أن ينظر إليها؟ ومن أي زاوية؟ وكيف يعيد كتابة الحكاية إبداعيا؟ وما المتوقع أن يتمخض عنه خطابه؟

هذه الاسئلة البديهية أول ما يطرحها الكاتب على نفسه، إذا ما حاول أن يقترب من ملامسة الجرح الإنساني، الذي يختفي وراء أكداس من الصمت والسكوت معا، لأن في جوهر تأسيس وبناء العمل الإبداعي السردي، لن يكون كشف الحقيقة، هو المعيار لقيمة التجربة الإبداعية في كليتها شكلا ومضمونا، بقدر إحالة الحكاية الواقعية إلى سلطة التخييل، والخروج بها عبر الاستناد إلى منظور تقنياتي، من محدودية الواقع إلى فضاء السرد الفني، بما يحتمله من حرية في إعادة التركيب، وفق صياغة تتداخل في بناء حبكتها عناصر وتقنيات مختلفة، ومن مصادر متنوعة، لا يتحرّج السرد في استنطاقها.

فضاء جمالي وفلسفي

شاء عبد المنعم الأمير في هذه الرواية أن ينحاز في تعامله مع الزمن إلى خيار سردي وهو يعيد تركيب الحكاية الواقعية، في بنية تداخلت فيها مستويات متعددة: الماضي مع الحاضر، الحقيقة مع ما هو متخيل، السارد الأول/المؤلف مع السارد الثاني/الشخصية المحورية، وجاء ذلك منسجما مع المسار العبثي للحكاية الواقعية، ولامنطقيتها الإنسانية. بذلك كان الأمير موفقا إلى حد كبير في أن ينسج نصا امتلك تماسكه الداخلي، واحتشاده بتموضعات رمزية منحته فرصة معاينة الأحداث والوقائع والشخصيات، في إطار من فضاء جمالي وفلسفي، وهنا تتجلى قيمة النص في خروجه عن مدار المباشرة، وما يفرضه من خضوع لسلطة الواقع المعلوم والمكشوف، ذاهبا به نحو فضول المبدع في بناء مداره الخاص، وبناء على هذا التصور الذي سار به النص، فإن رواية «فارابا» ليست كتابة سرد- ذاتية عن سقوط الموصل كما قد يتوهم القارئ للوهلة الأولى، من بعد أن تستوقفه أسماء بعض الشخصيات المعروفة والمعلومة لدى من يعرف المدينة، خاصة وسطها الأدبي مثل شخصية القاص بهجت درسو والشاعر سعد زغلول، وإذا ما حاول أن يستبعد عن ذهنه أي تصورات مسبقة تتعلق بمعرفته هذه الشخصيات، وانصرف إلى تتبع المغامرة التي مال إليها المؤلف في حبكته، وهو يلملم أطراف الحكاية، سيجد نفسه أمام عالم سردي يقف على الضفة الأخرى وهو يعاين الواقع.

إذن نحن أمام تجربة سردية حاول فيها المؤلف أن يعيد الإجابة على السؤال الجوهري الذي يدور حول جدوى الفن في زمن يسوده الخراب، وإذا ما أخذنا في نظر الاعتبار أن المؤلف نفسه عاش تجربة سقوط مدينته بكل تفاصيلها واكتوى بها، لأنه لم يهرب منها وبقي معها يشاطرها محنتها، عند ذاك سنصل إلى أن هذه التجربة السردية بكل ما جاءت عليه من نزعة تمردية في صياغتها الشكلية، تأتي تأكيدا على أن أُس العلاقة التي تحكم المبدع مع الحياة بكل تداخلاتها القائمة بين الذات والموضوع، ينبغي أن لا تدفعه إلى فقدان حريته في رؤيته الفنية للواقع .

شعرية السّرد

ولأن عبد المنعم الأمير شاعر متمكن من لغته وأدواته قبل أن يكون ساردا، كان من البديهي أن تتجلى الشعرية في مجمل ما جاء في روايته، وهذا ما منح العمل فرادته، وليس من السهل هنا الإمساك بهذه الخاصية، التي غالبا ما فشل فيها الكثير من الشعراء عندما جربوا حظهم في كتابة الرواية، فكانت لغته مشدودة ومكثفة، بالشكل الذي أفضت بالنتيجة لصالح الروائي السارد، وليس لصالح هيمنة وطغيان الشعر. ويمكن القول إن رواية «فارابا» بدت مفتوحة في بنيتها المركبة، من حيث اللغة والتقنيات، على فكرة التوغل في مغاور الذات الإنسانية في بعدها التاريخي واكتشافها عند لحظة الفجيعة وهي تفرض سطوتها على الحياة الإنسانية، وليس أكثر دلالة من نهر دجلة للتعبير عن جرح التاريخ وهو يمر من تحت الجسر العتيق في مدينة الموصل منذ آلاف السنين، باعتباره وحدة زمكانية للتعبير عما تختزنه الذات من أسى ويقظة في آن. والمؤلف في هذا العمل، الذي تبدأ أحداثه من حيث انتهت، يتموضع خلف قناع الشخصية الرئيسة/الساردة للأحداث، متلبسا وعيها وهي تقف عند الجسر العتيق جسدا مقطوع الرأس في جميع فصول الرواية، ليعري من خلالها سلطة الاستبداد التي مرت على مدينة نينوى عبر تاريخها الطويل، ابتداء بالملك نمرود وانتهاء بمن زعم نفسه خليفة ونصَّب نفسه حاكما عليها، بالتالي فإن التوغل عميقا في الطبقات المتراكمة من التاريخ في 112 صفحة (عدد صفحات الرواية) أحال القارئ إلى تجربة روائية تماهت فيها وجهة نظر المؤلف مع وجهة نظر السارد في إطار تصدي السرد التخييلي لإشكالية العلاقة مع التاريخ: «بعد آلاف السنين ضربت صاعقة عمياء تل التوبة، لتتناثر الأحرف التي سهر النساخون والوراقون في نقلها عن الجسد الناحل كقصبة، الذي كان واقفا أمامه على حافة الجسر العتيق ليال طوال، لتمطرها السماء رمادا على فارابا وتنقش أحداثها على أجساد جميع سكان المدينة!».

من الضروري الإشارة إلى أن هذا العمل تأكيد على أن الرواية تكتسب أهميتها وقوة حضورها، كلما كان الوعي حرا لدى المؤلف في بناء نسيجها، وقادرا على اجتياز حدود حقل التطبيقات المنجزة والجاهزة.

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي