رحلة الواقع والخيال في مجموعة «هان شر زمان»

2023-03-25

أحمد عواد الخزاعي

هناك متوالية تجمع بين السرد والحياة، عَبّر عنها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بمصطلح (الفهم السردي) الذي ينبع من وجود خطاب من الدرجة الأولى هو (الخيال) وتتبعه السردية الحياتية كخطاب من الدرجة الثانية.. في مجموعة «هان شر زمان» الصادرة سنة 2021 سعى القاص إبراهيم إسماعيل، إلى تحقيق هذه المتوالية، بحرفية السارد المتمكن من أدواته، المُحمل بخبرتين أدبية وحياتية واسعتين، مكنتاه من خلق نوع من المواءمة السردية بين الخيال كمحرك رئيسي لقصصه، والواقع الذي ترتكز عليه، دون أن يجعل أحدهما يهيمن على الاَخر، فمجموعته تمثل رحلة الواقع والخيال، التي كتب فيها نصوصا تميزت بالواقعية المشحونة بالخيال.. التي تحتاج إلى تأويل واستنباط من قبل القارئ، كونها حملت أبعادا فلسفية وصوفية، استخدم الرمز كدلالة على قصديتها، وجعل من الخيال عنصرا مهما في صناعة نصه السردي، الذي عبّر عنه الروائي نجيب محفوظ بقوله (الفرق بين الحكاية والقصة هو الخيال) لذا سعى إبراهيم إسماعيل إلى تطبيق مفاهيم وأسس القصة الحديثة، التي تمثل انعكاسا لتخيل الواقع وليس الواقع نفسه، فقد غابت ملامح أبطال قصصه وهوياتهم وأسماؤهم وانتماءاتهم.. وتحولوا إلى مجموعة من الأدوات البسيطة التي تتحرك بدقة وفق رؤية غارقة في التعقيد، وهي بحاجة إلى تأويل لمعرفة سببيتها، فسعى القاص إلى جعل القارئ جزءا من مشروعه السردي، وإشراكه عبر التأويل والتحليل للوصول إلى فهم شخصي لنصوص مجموعته.

أهم عناصر المجموعة:

اولا- اللغة: يمكن تعريف اللغة اصطلاحا على أنها مجموعة من الإشارات والرموز، وهي أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة، ودون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي، حيث ترتبط اللغة بالتفكير ارتباطا وثيقا، فأفكار الإنسان تصاغ دوما في قالب لغوي.. أما السرد فتلعب اللغة فيه دورا أكثر تعقيدا، حيث تشكل وسيلة تواصل غير مباشرة بين الكاتب والمتلقي، وهي بحاجة إلى أسلوب متفرد لوضعها في قالب سردي.. كونها لغة الكتابة الدالة على الفعل والحدث المقترن بالزمن، أو دون زمن. ويُستخدَم هذا النوع من الكتابة في العديد من القوالب الأدبية وفنون السرد المعروفة مثل القصة والرواية.. تميزت لغة «هان شر زمان» كونها لغة سهلة خالية من التعقيد أو ما يعبر عنه (لغة الغرف المعقمة) غاب عنها الحوار تماماً، تميل إلى الشعرية في بعض محطاتها، وهي ميزة في الفن القصصي، كما عبر عن ذلك الناقد حمدي مخلف بقوله (يجب أن تكون لغة القص مجموعة جمل شعرية تخاطب القارئ بإحساس مرهف).. كما في قصة (أثر) التي اجتزئ منها هذا النص (كان المدى واسعا لتنطلق.. لا أحد يتعقبها، تناثر شعرها في الهواء الذي يحركه جسمها، قفزات أخرى متسارعات كانت تخال المدى نقطة ما تضعها وسط عينيها).. وقد اتخذت بعض النصوص شكل القصيدة كما في قصة (تكسر):

كسرت أنفي، كسرت خاطرها

كسرت ظهري، كسرت فيئها

كسرت لهفتي، كسرت قلبها

ثانيا ـ قص الهذيان: يمكن تبويب جزء مهم من المجموعة ضمن قص الهذيان كون (هان شر زمان) ليست مجموعة قصصية سردية، بقدر ما هي مجموعة من الحراك الذهني، الخالي من الأفعال الحقيقية، كان حراك بعض أبطال نصوصها بدوافع غرائزية مصحوبة بالخيال، أفقدت النصوص واقعيتها، حتى بدت وكأنها صور ذهنية.. كما في قصة (كفاها أم ضفتاه) التي تبتدئ بهذا النص للسارد العليم (ما كانت قدماه تجرؤان على تجاوز الضفة الأخرى لولا رؤيته أنها ترفع بكفيها حفنة ماء، الغبار هو الآخر انزاح إلى الوراء كثيرا.. كان القدر بطل لحظته عندما أخرج لقيته الملونة، لا يدري إن كانت لقية حصى أم حجارة تدوين).

ثالثا ـ النزعة الصوفية: القص الصوفي مذهب فكري يطرح في بناه التعبيرية والموضوعية مفاهيم دينية أو فكرية تمثل فلسفة الوصول إلى الحقيقة والسعادة والكمال. في مجموعة «هان شر زمان» شكلت وحدة الوجود إحدى الركائز الفلسفية لنصوص المجموعة، فقد طغت النزعة الصوفية على بعض النصوص، بشكل جعل منها حلقة ذكر صوفية هام مريدوها بالطبيعة وذاب وجودهم ووجدانهم فيها، فلم تستثن قصص «هان شر زمان» أي كائن حي (بشرا، حيوانات، حشرات، نباتات) الجميع دخلوا في دوامة البحث عن الوجود وأثاروا تساؤلات فلسفية ووجودية أزلية، من خلال حراكهم ومسعاهم وتصوراتهم.. فأغلب نصوص المجموعة توحدت نهايات أبطالها على اختلاف أجناسهم ومشاربهم، بأن ذابوا وتلاشوا في الوجود. وسأختار قصة (الصغير) انموذجاً لهذا المنحى القصصي (انساب نحو الجنوب المهيب، لقد ذاب الطين بالماء، وذابت كفا الصغير بالطين، وذابت الرحلة في المجهول ما لا يمكن العودة منه. الصغير كثيرا ما كان يرغب بالذوبان في راشح المياه).

رابعا ـ الزمان: كانت أزمنة النصوص ذات سياقات مختلفة:

زمن عائم، لا يعبر سوى عن جو النص، والظرف اللحظي الذي جرى فيه الحدث المركزي، كما في قصة ثوب (هو والليل والقمر أسياد اللحظة ها هو يراقبها بعدوانية وشراسة).

ب- زمن غائب، فكان أغلب نصوص المجموعة بلا زمن، يتحرك أبطالها وفق سياق الحدث، بلا أزمنة تعطي دلالة ظرفية لصيرورته.

ج ـ زمن محدد، احتوت بعض نصوص المجموعة تواريخ دقيقة لأحداث، ربما كانت جزءاً من ذاكرة القاص، وشكلت منعطفات مهمة في حياته، أو حياة ناس كان على صلة بهم.. إن عملية زج التواريخ في الفن القصصي تحمل شيء من المجازفة التي قد تؤدي إلى إثقال براءة النص وتشظيه، لكن إبراهيم إسماعيل عَمد على استخدام هذا الأسلوب السردي ليجعل القارئ يتوقف بصورة قسرية عند تلك الأحداث، ويحاول إيجاد تصورات لها، من خلال ذاكرته الشخصية التي تمثل جزءا من الذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي، كما في قصة (فوز) التي أهداها القاص إلى الشاعرة الفقيدة وجدان النقيب (لقد سطا عليها في 22 آب وكاد يقضمها بلين ودعابة.. التفاحة التي سقطت من الغصن لن تعود إليه).

خامسا- المكان: تشظى عنصر المكان إلى أبعاد عدة باختلاف نصوص «هان شر زمان» وطبيعة وجنس أبطالها.. لقد اعتنى القاص بعنصر المكان، كونه البيئة المعبرة عن هوية النص والدالة عليه، فكانت الطبيعة بمعناها الأكبر والأشمل هي الحيز الذي تحرك فيه أبطال معظم قصص المجموعة.. فضاءات مفتوحة وحدائق وأنهار وحقول، ارتبط معها أبطال النصوص بروابط وجدانية وغرائزية ونفعية، شكلت نوعا من (التعالق الباختيني) الذي يحيل تأويلياً مكان الحدث إلى أماكن أكبر وأوسع.. وهذا ما يطلق عليه اصطلاحا (التشيؤ) الذي عبرت عنه الكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت بقولها (القصة الشيئية هي ردود أفعال حسية ونفسية بين الإنسان والأشياء عبر التكيف الشيئي للمكان والتكيف الانفعالي لردة الفعل اتجاه الأشياء) وسأختار قصة (عناق) أنموذجا لهذا المنحى السردي (كانت تنتقل بين الحدائق وكلما رأت أزهاراً توقفت عندها، محاولة التمتع بها والتماس معها حتى لونها كاد يتشبه بلون وردة جهنمية).

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي