أنثروبولوجيا المكان في رواية: «مَنّا.. قيامة شتات الصحراء»

2023-03-23

عبدالحفيظ بن جلولي

تعتبر الرواية الخزان الثقافي الذي تتوالد منه الأفكار لقراءة الواقع بمنظار تخييلي، ينتج عنه فهم العالم جماليا، حيث تتفكك بنياته انطلاقا من الوعي السردي بالتاريخ المتواصل عبر الحكاية الإنسانية، والتاريخ حكايات خيالية، بتعبير بورخس، تلك هي إشكالية المعنى في الرواية، باعتبارها حكاية خيالية لكنها على تماس بالواقع، تقدم سردية في مواجهة سرديات أخرى، تثبيت الصحراء عبر السرد حتى لا تنهار معالمها، وهو ما يؤكد عليه كلود ليفي شتراوس من أن «وجود الأشياء المقدسة في أماكنها، هو ما يجعلها مقدسة، لأنها لو انتزعت من أماكنها حتى لو فكريا لتدمر نظام العالم بأكمله». وهو ما حاولت رواية «منا» للروائي صديق حاج أحمد أن تؤثث به الفضاء الجمالي في أنثربولوجية الصحراء.

مفهوم القيامة والمنظورات الخيالية للتعبير

إن رواية «منّا» هي إضافة المعنى في الخيال إلى الصحراء ككينونة، فتخييل الصحراء معناه منحها «الهوية السردية» أي قدرتها عبر فواعلها على سرد أحداث وجودها بشكل منتظم، برؤية بول ريكور. اتكأ الروائي على مفهوم «القيامة» مِن قام بعد سكون، أي انبعث، وهو المعنى الكامن في تقديم الهوية السردية للصحراء، أما المستوى الثاني فهو الذي تناوله في جدل المقدمة أو ما سماه «فراش رملي» حول اختلاف الفقهاء في جواز توظيف «القيامة» من عدمه، في ما يتعلق بأمور الدنيا، وأقر فريق جواز ذلك في «التصورات والخيال» إذا توفرت القرائن على ما يسوغ ذلك. اعتمدت الرواية على القيامة باعتبارها أمرا مهولا تتحرك فيه الكائنات إلى مصير مختلف غير معروف لأنه «غيبي» فاستثمرت في جانب «الهول» باعتبار الدلالة في الخيال، لأن الخيال هو «تمثل شيء غير موجود أمامنا، لكن له وجود في الواقع» والقيامة واقعٌ في وجودٍ غيبي لا نعرف عنه شيئا. تمثل القيامة النموذج الأمثل في تقديم ملحمة الصحراء، باعتبار أن رواية «منّا» هي استعادة الصحراء ثقافيا وإنسانيا من النسيان واللامبالاة.

أنثروبولوجية الحفر الروائي

إذا كانت البعثات الاستعمارية مؤسسة على علماء الأنثروبولوجيا لقراءة عادات وتقاليد الشعوب لإمكانية السيطرة عليها، فإن رواية «مَنّا» تحاول قراءة الصحراء في إطار تدافعي إثني لإعادة الاعتبار لها عبر سيرورة جمالية حكائية تنبع من خيال الكاتب لكنها بمفردات الواقع المرير، لأن الأنثروبولوجيا الثقافية تهتم بالماضي الإنساني الذي يمثل اللاوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي، الذي تتحرك ضمنه المجتمعات القائمة في الحاضر. لقراءة انبعاث الصحراء في مخيال الروائي، أعود إلى «مملكة الزيوان» أول أعماله، خاصة شخصية الطفل الذي ينطلق في الرواية من الرحم، متحدثا بلسان فصيح عن تجربته الوجودية في الفضاء الصحراوي، وهو ما يحيل إلى عملية انبعاث الصحراء من العدم، والعدم هنا ليس اللاشيء أو الفراغ، بل ذلك الوجود الذي تضمن قبلا عناصر تشكيل ما سيصيره الشيء في ما بعد، أي انطلاق الصحراء من رحم الأشياء.

أنساق الكينونة الصحراوية

تتحرك الرواية في فضاء الصحراء برائحة شبيهة بتلك التي أثبتها ريشاردز في كتابه «فلسفة البلاغة» حول كتابات لورنس العرب التي «تفوح برائحة الخطر الآتي من الحرب والصحراء». تكشف الأحداث في الرواية الجانب المهم في الرؤية للصحراء باعتبارها كينونة: «يعاود (عثمان) العبث بسيوره الجلدية، وهي عادة مندسة فيه، لحظات متاهته مع السراب» فالصحراء عندما تتحول إلى «المتاهة السرابية» التي تمتص وجود الصحراوي، فهي الحرية، وهي كل المجال الحيوي لديه. تحاول الرواية عبر الصراعية إعادة العنصر الافريقي إلى الفضاء العام للصحراء بكل ما يمثله من اغتناء ثقافي واجتماعي وحكائي/أسطوري، وتروم إبعاد التصور في الوصف بالقحل الذي يعطي لكل موصوف بالصحراء صفة الموت، ففي قولنا التصحر الثقافي أو التصحر الاجتماعي، نحيل إلى اللاشيء، أو الموات، لكن بالنسبة للمخيال في الميلاد، هو يعيش ذلك التصحر، وفق قيم التصحر ذاته الذي تجذبه وتُوَتده فيه كعلامة على الحياة، وهذا ما حاولت الرواية أن تقدمه عبر عنصري الشاي والخيمة.

يرد الشاي كعلامة ثقافية في المتن، «وإن كان تجاوز جدته، كونها أصيبت بدوخة الشاي» فالصحراوي لا يمتلك افتتانا مطلقا قدر افتتانه بالشاي، لأن هذا المشروب طقس من طقوس الصحراء، باعتبارها كينونة، وهو ما تحيل إليه الرواية في اعتبار قعدة الشاي (مع نضوب قعدة الشاي..) «جلسة» «مرت جلسة الشاي طريبة، باحتساء آخر الخبة، التي تأتي مع رغوة آخر الشاي» حينما يجلس الصحراوي إلى «صينية» الشاي، فهو في «قعدة» وهو شكل الانبساط إلى الشاي باعتباره «جلسة» يُتداول فيها كل ما يتعلق بالجماعة التي تشكل سدى الشبكة الاجتماعية الصحراوية، والتسميات «رغوة» «خبة» تعني أن الشاي علامة حيوية في حركة الصحراوي، وهو ما يعكس وضعه الاجتماعي والثقافي داخل فضاء الصحراء.

يمتلئ الكأس، يبدو الشاي داخله وكأنه يعتمر عمامة، شبيهة بشاش الصحراوي الأبيض الذي يضعه على رأسه، وهي إشارة إلى نشوة الشاي ولذته، وما يفعله بالرؤوس التي تفكر وتبدع الحياة داخل فضاء الصحراء القاحل. يحضر الشاي عادة في الصحراء المكثفة بالريح، فتلك الرغوة تمنع الخشاش الذي قد تذروه الريح من الاختلاط بالمشروب. تشير الرواية إلى الخيمة باعتبارها الجامع ضمن فضاء يسمه الاختلاف، فانتقال التارقي إلى المشرق، «معتقل أنصار» أو «معسكر عين الصاحب» يعني تجمع متعدد الأعراق ولقاء المشرق بالمغرب، وهو ما يعني التواصل القومي، «ونبهني صاحبنا المسالم المهزاق، لما سيكون عند ولوج الفلسطيني الخيمة» هذه الخيمة تعتبر مجمعا عربيا: «في مجمع العرب بالخيمة». تعتبر الخيمة رمز البداوة، فالمنطقة العربية لا تعدم تحولها التاريخي من البداوة نحو التمدن، وهو ما يعني أن ترسبات البداوة تسكن المخيال العربي و«اللاوعي الجمعي» بتعبير يونغ، ولها تمثلاتها في «اللاوعي السياسي» في مفهوم ريجيس دوبري. تأتي أهمية الرواية في الإشارة إلى الاختلاط الإثني داخل الخيمة العربية، كإدانة للإقصاء الذي يمارسه «اللاوعي الجمعي» العربي ضد تماساته مع العمق الافريقي الثقافي والاجتماعي، فعادةً ما يتم حصر البعد الصحراوي في الذات الجمعية العربية التي شهدت ميلادها التاريخي ضمنه.

حركية النص أو أنثروبولوجية الوعاء الثقافي

إن حركة الحدث تتمثل في نظام الهجرة الذي انبنى عليه مسار السرد – موريتانيا، النيجر وبوركينا فاسو، الجزائر، ليبيا والحجاز – حركة طالت الفضاء القومي كإحالة إلى حركة العرب أو المجال الجغرافي العربي نحو امتداداته الافريقية لتَوافر مُشترَك «البداوة» فليس اعتباطا ذكر «معتقل أنصار» ومعسكر «عين الصاحب» في ريف دمشق، والمراد منه التحرير، تحرير الوعي ابتداء بمنظومة الصحراء القائمة على الكينونة الاجتماعية والثقافية، وليس الطبيعة فقط، فحركة الحدث هي حركة في الوعي أيضا.

تتميز حركة الحدث بالتعدد الإسمي والانتقال من التارقي إلى العربي، أخمادو وغلواتة ولولة وهُكَتا، «كاظم العراقي» و«يحيى الفلسطيني» وهي حركة داخل الجسد القومي. حركة اللغة، هي حركة الإقلاب، قلب الغين قافا، والحاء خاء، هذه الحركة في اللغة تمثل العامل الثقافي الأبرز في كينونة الصحراء باعتبار خصوصياتها، فأحمادو هو أخمادو، وعلواتة هو غلواته والاستقلال هو الاستغلال، وهو ما قد يثير خللا في منظومة التواصل، كما حدث بين الضابط الليبي وشخصية من شخوص الرواية، قلبت القاف غينا في الاستقلال فتحول المعنى كلية عن مقصوده في فهم الضابط الليبي. هذه الحركة هي إحالة إلى المنظومة العربية القائمة على القومية المتشددة في حالتيها الليبية القذافية والسورية الأسدية، لكنها تعبير عن الوعي الجمعي العربي المغاربي في تعاليه على أهم مقوم عميق في امتداد ثقافته في جوارها الافريقي.

الحركة الثالثة هي حركة المعنى، التي تستقى من اللامعنى في الفضاء الصحراوي، إذ لا يتحقق فيه سوى «الفراغ والامتداد، صفير الريح والصمت» وهي العناصر الثلاثة الأشد تأثيرا في الصحراء، لكنها الأشد إظهارا لكينونتها. فالامتداد في الفضاء هو ما يمنح الأشياء التمايز، أي حرية الحركة، ولهذا نرى الصحراوي متدحرجا في عباءته الفضفاضة، كتعبير عميق عن الحرية، والامتداد والفراغ، تعبير عن الخيال الواسع، أما الريح فهي التعبير الأمثل عن المقاومة والتحدي. الصمت، هو الموسيقى التي يستند إليها كيان الصحراوي تعبيرا عن ابتهاجه بالتماهي في جغرافيته، ولهذا أفرق بين مخيالين في تناول موضوع الصحراء، مخيال بالكينونة أو الكينونة بالميلاد ومخيال عابر للصحراء، والأول يمتلك بلاغة التواصل والشفافية اللتين تمكناه من إدراك جوهر الصحراء بكل عفوية، بينما بلاغة التواصل والشفافية تجعلان من المخيال العابر للصحراء مجبرا على التعبير عن فتنة المكان وعشقه. تذكر الرواية الفتاة التارقية «هُكَتَا» الجميلة التي «يتمناها أي شاب من توارق وعرب تيلمسي» وإلى «لولة» الجدة التي تمثل «اللاوعي الجمعي» بدلالة الصحراء التي يتقاسمها العرب والأفارقة، ومنه فـ»مَنا» تسمي الأشياء باعتبار ما تؤول إليه أملا في الانفتاح على البعد الافريقي في كينونة العربي الثقافية.

الرواية التي انتقلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية

كاتب جزائري









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي