الناقد الأردني عبد القادر الرباعي: نعيش أزمة مثقفين… و«عرار» أسطورة عصره

2023-03-20

حاوره: نضال القاسم

يعتبر عبد القادر الرباعي من الأسماء البارزة في النقد العربي المعاصر، وقد تميزت تجربته بخصوصيتها منذ بدايات تشكلها واختارت أن تتخذ مسربها الخاص في لغتها ومبناها وخطابها، فهو واحدٌ من رواد النقد الأدبي المعاصر في الأردن، وأحد نقاد القصيدة الحديثة، أنجز متنا نقدياً يمتد على مدى نصف قرن، ولعل المقارنة بين أعماله النقدية الأولى وما تلاها، مثل «جماليات الخطاب في النقد الثقافي» «حكاية وشم» «بلاغة الصورة/التكوين الفني إطاراً» «من الاستشراق إلى الاستغراب/تفكيك كتاب محمد والغصن الذهبي» «في تشكيل الخطاب النقدي: مقاربات منهجية معاصرة» «جماليات المعنى الشعري: التشكيل والتأويل» «حفريات النص الشعري الجذري/التأويلية إطاراً» «الصورة الفنية في النقد الشعري/دراسة في النظرية والتطبيق» وكتابه الأخير«البلاغة الجديدة وتحليل الخطاب/إعادة اكتشاف نظرية الجدل» 2023، تكشف مدى الجهد الخلاّق المتطور في تجربته النقدية. وعن قضايا النقد وخصوصياته، كان الحوار..

كيف بدأت رحلتك في عالم النقد؟

بدأت تجربتي النقدية منذ دراستي للأدب العربي في جامعة دمشق، حين كنت أتلقى النقد الحقيقي في محاضرات أساتذتي شكري فيصل في تحليل النص الجاهلي، وعبد الكريم الأشتر في تحليل النص الشعري الجديد، خاصة شعر شعراء المهجر، ومازن المبارك في تدريسنا للبلاغة بطريقة مختلفة. وممارستي للدرس النقدي بدأت مع نسلم بن الوليد وتركيزه في شعره على البديع الشعري الذي يعد أستاذه الأول قبل أن يطوره تلميذه العظيم أبو تمام الذي شغلت في دراسة الصورة الفنية في شعره. عند أبي تمام نضجت ثمرة النقد عندي وأصبحت أشعر بأن الدرس النقدي قد اكتمل لديّ بصورة مختلفة في خصوصيتها. وقد مارستها بحرية وكفاءة خاصة في كتابي «جماليات المعنى الشعري: التشكيل والتأويل» حيث درست نص البديع في شعر أبي تمام من القديم، والليل في نص لمحمود درويش، وصلاح عبد الصبور من الحديث. وكان وقع هاتين الدراستين على الدارسين وقعاً لافتاً في تقديرهم لهما. هنا اكتملت الدرجة العليا التي اجتهدت أن أصل إليها.

والآن وبعد أكثر من أربعين سنة على كتابة النقد، ما الذي تعتقد أنك قدمته للنقد العربي؟

أعتقد أنني حققت لعالم النقد مستوى احترافياً ضمن ثلاثة أطر بأنساق نافذة التأثير في النقد العربي الحديث، أولها الصورة الفنية في الشعر خاصة. كان الحافز الأول الذي منحني الثقة العلمية المتميزة هو النتيجة المشرفة التي انتهت إليها نتيجة مناقشة أطروحتي للدكتوراه ـ مرتبة الشرف الأولى ـ من لجنة المناقشة المؤلفة من أعلام الأدب والنقد: شوقي ضيف، ويوسف خليف من جامعة القاهرة، ومصطفى الصاوي الجويني من جامعة عين شمس، وكلهم أساتذة كبار في تخصصاتهم. هذا النجاح كان لي المفتاح والبوابة المضيئة للدخول في عالم النقد الحديث بكفاءة واقتدار. وبفضل هذا الإنجاز المحبب إلى نفسي، على ما فيه من جهد متواصل واستقصاء دقيق، وتحصيل مكثف للصورة الفنية من شتى المصادر الأجنبية والعربية، تمكنت من أن أؤلف في الصورة وحدها، خمسة كتب.. الصورة الفنية في شعر أبي تمام، الصورة الفنية في النقد الشعري، الصورة الفنية في شعر زهير بن أبي سلمى، مقاربة الصورة والأسطورة في الشعر الجاهلي. وبلاغة الصورة- التكوين الفني إطاراً. أما المجال الثاني الذي أحببته وعشته تجربة فريدة أعجبت نقاداً كباراً، فهو تحليل النص الشعري الذي بثثت فيه تحليلاً لقصائد كاملة لدى أكثر مؤلفاتي السابقة، لكنه ظهر بشكل منفرد في بعضها. أولها: كتاب «جماليات المعنى الشعري: التشكيل والتأويل» حيث تناولت في الكتاب قراءة متكاملة لنصوص شعرية من القديم والحديث، وثانيها كتاب «حفريات النص الشعري الجذري- التأويلية إطاراً». وثالثها كتاب «مقاربة الصورة والأسطورة ـ التشبيه الدائري والطير في الشعر الجاهلي» ورابعها كتاب «نصان وناقد واحد».

أما المجال الثالث فالنقد الثقافي، لقد شكلت أنا ومجموعة من طلبتي للدكتوراه مدرسة عرفت بالمدرسة الأردنية للنقد الثقافي، وقد أشار إليها ناقد سعودي هو خالد جديع، وكتب عنها أكثر من مقال تحت عنوان «الأردن يدير دفة النقد الثقافي» ولي فيه كتابان هما أولاً «تحولات النقد الثقافي» وثانياً «جماليات الخطاب في النقد الثقافي. وبعض البحوث المنشورة في مجلة «عالم الفكر» الكويتية، وملتقى الثقافة والنقد الثقافي في مصر. وقد تناول عملي وعمل طلبتي هشام زغلول من مصر في رسالته للدكتوراه بإشراف جابر عصفور موزعة على أفقين للنقد الثقافي: أفق الغذامي وأفق الرباعي. ونوقشت الرسالة في قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة نهايات 2022. وما تبقى من عملي يدخل في إطار الدراسات الأدبية والنقدية. وأخص كتابين منها في الاستشراق.. «جهود استشراقية في قراءة الشعر العربي القديم/ريناتاياكوبي نموذجاً» و»من الاستشراق إلى الاستغراب/تفكيك كتاب محمد والغصن الذهبي للمستشرق ياروسلافاستتكيفيتش». ومن الكتب الأخرى كتاب «في تشكل الخطاب النقدي/مقاربات منهجية معاصرة». ومقالات في الشعر ونقده.

إذا كان لكل منتج فكري وثقافي خصوصية، فما هي خصوصية كتابك «حكاية وشم: سيرة نقشتها على خد الصفا عواصف المدى»؟

القيمة المركزية في حكاية الوشم أنها حكاية رمزية لآثار حركة صاخبة على الأرض الواسعة من أجل تحقيق حلم ذات إنسانية، صارعت عنفوان المستحيل، واحتملت قسوة المكان والزمان والإنسان، حتى فازت وقطفت ثمرة الأحلام والأيام واقعاً مشهوداً يبعث على البهجة والفخار. هي قصة صبي قروي نشأ في بيئة قاحلة إلا من حلمه أن تكون له قيمة، وأن يحتل موقعاً في الحياة. تشبث بالحلم وشق طريقاً في الصخر، رغم المصائد والمهالك والسبل المسدودة، والأجواء المكفهرة، حتى حقق ما كان قد حلم به.

مصطفى وهبي التل (عرار) كيف تنظر إليه؟ وكيف تنظر الآن إلى شعره؟

في إجابة بسيطة أقول صادقاً: (احتل عرار- شاعر الأردن – قلوب الأردنيين قرنين من الزمان دون منازع، وسيظل كذلك قروناً تالية، لأنه فريد في شخصه، عظيم في جهاده، عالٍ في مستواه الشعري، جريء في خطه السياسي، صادق في حبه الإنساني، مخلص لوطنه الأردن مكاناً وإنساناً؛ بما لا يدانيه حب من وطني أردني شريف قط: شاعراً كان أو غير شاعر، على الإطلاق). إنني لا أقول هذا عن هوى، وإنما بعد أن دخلت عالمه العميق، ضمن دراستي إياه حفراً في ذاته، وفي حياته، ومواقفه السياسية والاجتماعية والإنسانية، وفي لغته وشعره، وجرأته، ونضاله، وصداقاته، واحتماله. لقد دونت ذلك وعبرت عنه بما استطعت في كتابي «عرار: الرؤيا والفن ـ قراءة من الداخل». أستطيع أن أقول: إنني خرجت من تأليف الكتاب وأنا أحمل لعرار صورة أكبر بكثير مما استطعت التعبير عنها. لأنني أؤمن أن صورة عرار ظلت في داخلي أعلى كعباً بكثير مما تستطيع أن تعبر عنها لغتي أو أي لغة أخرى مهما كانت عالية الفصاحة. عرار في نظري، أسطورة عصره الأردني. والأسطورة خيالٌ محض وهو خارج لغة الكلام المعبرة عنه. قد تراني ويراني غيرك مبالغاً، لكنني أصدقك القول: إنني أرى عراراً يلبس هذا الثوب الأسطوري الأردني بحق، ودونما فضفضة.

إلى أي حد يرصد الكاتب حركة المجتمع؟ وإلى أي مدى يمكن أن يحدث تغييراً في مجتمعه؟

الكاتب – بلا شك – يستخدم لغة لتقرأ. والقارئ ضمنياً ــ حسب نظرية التلقي والتأويل ـ هو سلطان النص: هو قارئه ومحلله والعارف بأسراره، لذا هو المتأثر الأول به والذائع لأفكاره، والناشر لرؤى كاتبه إن كان للكاتب رؤية نافذة. وها نحن نصل إلى نوعية الكاتب؛ فليس كل كاتب يمكن أن يؤثر، لكن الكاتب ذا الرؤية الفكرية والعملية المفيدة سيكون مؤثراً بلا شك. وعندها سيكون له تابعون يقرؤونه ويحملون أفكاره إلى المجتمع. وهكذا تتشكل دوائر الكتابة والكتاب ومن ثم يغدو للأفكار المهمة والمفيدة أتباع مؤثرون في مكونات المجتمع. انطلاقاً من هذه الدائرة يصبح الكاتب ذا تأثير متسارع، يتزايد باستمرار ليحدث فرقاً يعول عليه في تغيير منطلقات المجتمع العادل. الكاتب القادر والحامل لفكر حضاري اجتماعي بناء مؤثر ومغير بلا شك، شرط أن تكون تلك الدعوة للصالح العام، بعيداًعن المقاصد الذاتية، أو المنافع الشخصية.

يتردد بين حين وآخر أن هناك أزمة ثقافة، ويذهب آخرون إلى تسميتها أزمة مثقفين، ما رؤيتك الخاصة لهذه القضية؟

ليست هناك أزمة ثقافة لأن الثقافة متاحة بشتى اللغات، ووسائل الوصول إليها ميسورة آلياً وحضارياً وفكرياً. فالأزمة أزمة مثقفين وفي مستويات عدة، المستوى المحلي لدى المثقف مشكلة إنسانية مع غيره ممن ينظرون إليه في كثير من الريبة بمعنى أنه قد يكون محارَباً في مستوى فردي حيث تظهر سلبية الغيرة التي تدفع للتنمر والإقصاء من خلال التقليل مما ينجز في مستواه الفكري، أو العقدي، أو الشخصي، وهذا يدفعه للرد هنا وهناك فيشتت اهتمامه، ويبتعد عن خط مشروعه إلى مناكفات جانبية. وقد ينكسر في منتصف الطريق، إن لم يكن على قدر المواجهة. وهكذا نحن مع المثقفين بين فئتين: إحداهما مؤهلة ثقافياً وذات مشروع ثقافي مفيد، وفئة سطحية تعتقد ـ زيفاً ـ أنها توازي الفئة الأولى وتتفوق عليها؛ فتقف في طريقها معطلة لمشاريعها ولعطائها. والنتيجة المأمولة أن يظل المثقف الحقيقي، ذو المشروع النافع المفيد، سائراً في خط سيره إلى الأمام لا تعيقه العوائق من أية جهة، منتظراً أن يلتف حوله المخلصون لمشروعه الذي يكبر به وبهم حتى يتكامل، فتعم فائدته المجتمع بأكمله. نأمل ذلك ونعول على المخلصين للثقافة النافعة في سبيل الرقي الأعلى والحضارة الأرقى.

وهل بوسع أي كاتب أن يصبح ناقداً؟

الكاتب لا يصبح ناقداً بإرادته، هو ناقد حين يكون على الواقع العملي والفني، كذلك قيمة إنتاجه النقدي هي التي تجعل منه ناقداً، وهذه القيمة تكلفتها ليست سهلة ولا هي بسيطة، إنها نتيجة تعب في القراءة المتنوعة، والمتابعة الحثيثة لكل جديد، ثم الانتقاء من الجديد جدة يُظهرها للعلن إنتاجاته الجديدة المختلفة المثيرة للانتباه، وكذا التمعن جيداً في ما ينشر، والحوار البناء مع من يحاور، وهذا كله يحتاج تراكماً في الأداء المستنفر والمستفز في الفعل الحقيقي على الورق، ومن خلال التواصل العملي الذي لا ينقطع.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي