القلق وشعريته في «جيوب الخوف» للمغربية سعيدة لقراري

2023-03-16

عبد الغني فوزي

تواصل القاصة سعيدة لقراري مسارها القصصي، بإصدار لامع، العنوان «جيوب الخوف» الذي يحتوي على عناوين (خوف ثقيل، رياح على ايقاع كورونا، مران أحلاهما حجر، نافذة الإغاثة، مسألة وقت، ذاكرة دون رصيد، خطوات خارج الطريق، مناعة، الظل يستعيد صاحبه، خارج دائرة الخوف…) تعتبر تنويعا على ثيمة الخوف تحت تأثيرات، صيغت بمتخيل قصصي يفتح النوافذ ويطرح الأسئلة الملحاحة والقلقة.

تعرض قصص المجموعة الخوف من كرونا، وانعكاساته النفسية والاجتماعية. في هذا الصدد، تروي الساردة (والسارد) محيطها المعطوب، انطلاقا من الجار والجارة، إلى مرافق المدينة، إلى حياة العمال. طبعا المجموعة لا تقدم ذلك، بتسجيلية باردة، بل اعتماد الحواس والتأمل في التفاصيل التي تجسد جماع حياة مضطربة، في ظل وباء يعيد طرح أسئلة الحياة والوجود اليوم بإلحاح. وينضاف لذلك رصد قصصي لجوانب من الذاكرة. استرجاعا لفصول تمثل الخوف من الآخر المخيف، ومن المستقبل الغامض. إنه الخوف وسلطانه الذي يتخذ تمظهرات اجتماعية ونفسية عدة، ما أثر وأربك الروابط والصلات الإنسانية. وهي (المجموعة القصصية) في ذلك تنطلق من رقعة بشرية، في تركيز على فضاءات مغلقة (البيت، العمارة، الشارع، الحافلة، المعمل…) تطل على العالم من أسفل، عبر شعرية الطريق والنافذة. فكان الرصد مخبريا إلى لا حد في الصغر ولو بلغة القصة القصيرة التي ترعى الظلال والهوامش وتنقلها إلى بقاع النظر. نقرأ في قصة «خوف ثقيل»: «لا شك في أن ما يقلقني، هو ما يجعل أيضا صوت جاري يحترق، حتى يخذله غضبه فيسمع صوته عواء، وصوت زوجته مواء.. المستقبل أمامه على وجهه يحمل كمامة، بملامح باهثة تبدو له، وأحلام مقعدة، فقدت القوة على مواصلة السير نحو نقطة الوصول. هي أيضا تكتوي بصهد ما يرى بجوف الغد الثمل برائحة الكحول والمعقمات».

أكيد أن المجموعة تلفت النظر لساردها المتعدد، لكنه يطوي على سمات كبرى وأخرى خاصة. فالأولى تجسد الساردة المتأملة من جهة في التفاصيل وتمثيل انعكاساتها عبر مشاهد ووقائع ساخنة. سعيا إلى الحفاظ على حرارة المشهد، بإيهام غير مفارق. فالساردة تلعب دور التنسيق بين المشاهد، بعين يقظة وحواس مسترسلة، دون توجيه خلفي، بل تنقل ما ظهر وبطن في الحدث، ضمن سياق مضغوط، أو تشبيك خيوط الحكي. فالمشاهد حين تعبر على لسان السارد أو الساردة تغدو مرتبكة، متأملة. لهذا فهذه اللمسة تمنح روحا ونفسا جديدين للقصة، لتغدو أداة بحث وتأمل، قصد طرح أسئلة الحياة والوجود بين الواقع والمتخيل. انطلاقا من العناوين والمحتويات، تعتمد المجموعة لغة قصصية غنية بايحائها ورمزيتها. مثلا، فالزوج تحول إلى كلب وزوجته إلى قطة. وهو ما يؤكد التحوير التخييلي الذي يخلق محتمله الحكائي، أي الانطلاق من واقعة مرجعية، وتحويلها قصصيا. فتتحول الواقعة إلى وقائع مفتوحة على التأول. ورد في مجموعة «جيوب الخوف» ضمن قصة «نافذة الإغاثة»: «وأخيرا رن جرس المعمل، معلنا الاستعداد للخروج، بعد يوم حافل بمحاربة مد وجزر زمان، هو يوم ككل أيام الله، يبدأ بتحية صباح محلاة بابتسامات مكابرة، ابتسامات تنطفئ فينا قبل حلول منتصف النهار، لتظل جذوة الكد والجد فينا مشتعلة، وإن احترقت على نار الوقت البطيئة، الأخضر واليابس من أشياء جميلة كانت ذات عمر تسند السير وتنعش الخطوات فينا».

حافظت المجموعة على خطية الحكي، فالأحداث تتطور إلى الأمام، لكنها تكسر الكثير من البدهيات القصصية.. فالعقدة لم تعد واحدة ووسطية؛ بل النصوص تغدو مقعرة من خلال الاستغراق في الحالة والموقف.. فانعكس ذلك على الإطارات المكانية والزمنية التي أصبحت سائلة. نقرأ في قصة «الظل يستعيد صاحبه»: «أمسك بمشطي الخشبي الطويل، كمكبر صوت، أرتدي بيجامتي المزركشة بالدباديب الملونة، أصعد المنصة، أقصد أعلى أريكة بالغرفة، ألقي التحية على الجميع تحية بنكهة بريق النجوم، كراقصة «باليه» موهوبة. أعطي إشارة انطلاق لجوقتي الموسيقية. تصدر النوتات كأولى التلويحات من عازفة الكمان، لتمتزج بعد ذلك بخفة ورشاقة مع باقي النوتات المتدفقة من آلات موسيقية أخرى». فالمكان يبدو متسائلا بدوره لا رقعة وانبساطا محايدا، من خلال ما يحتويه من تأثيث وهوية الإنسان. إلى حد هندسة المكان قصصيا على ضوء الحالة والموقف. كما أن الزمان في ترابط قوي مع المكان، في طغيان للزمان النفسي، ضمن فضاءات مغلقة ترقب العالم من أعماق الإنسان عبر هوات صغيرة كالنافذة والطريق..

أتابع مسيرة هذه القاصة القديرة خطوة خطوة، وأحس مع كل خطوة تخطوها على أرض القصة، أنها تغني وتعمق منجزها السردي بكثير من اللمسات الجمالية. منها الانفتاح على الهامش ومسالكه الوعرة المنطوية على كل أشكال الفقر والهشاشة. في اعتناء بالحلة القصصية حيث تعميق مقولة السارد، سعيا إلى تأثيث الإطارات القصصية، لتغدو سائلة، معبرة عن انسيابية النص المحبوك من البداية إلى النهاية. كما امتد الاهتمام باللغة التي لينت ورمزت بين مقامات التواصل القصصي. وهي بهذا الصنيع، تنحت خصوصيتها بصمت لامع من القص، وليس من اللغط..

كاتب مغربي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي