
موسى إبراهيم أبو رياش
لا ينفك الإرهاب يلازم البشرية منذ القدم، فهو سلوك بشري متطرف منحرف، منظم ومخطط له، تقوم بها تنظيمات؛ لتحقيق أهدافها بالعنف والتخويف والقتل والتدمير وما شابه. ولا يعرف حقيقة الإرهاب إلا من عايشه، وله معه تجارب عن قرب، ورأى آثاره فيمن حوله. والقاص العراقي علي السباعي هو ابن مدينة الناصرية، التي كانت ضحية وساحة للإرهاب من جهات متعددة، بحيث كان الإرهاب حدثا مألوفا يتوقعه الناس هناك في أي لحظة، لا يدرون من أين تأتيهم الضربة، وممن؟
وفي مجموعته «مسلة الأحزان السومرية» يقص السباعي بعضا من العمليات الإرهابية التي طالت أكثر من مكان في العراق، وهذا من أهم أدوار المبدع؛ أن يشتبك مع قضايا وطنه، ويتفاعل معها، ويعبر عن مخاوف أهله وآلامهم وظروفهم وتفاعلهم مع العمليات الإرهابية، وآثارها على النفس والمجتمع. تتكون هذه المجموعة الصادرة في بلغاريا عن دار الدراويش، من تسع قصص، بالإضافة إلى «حوار في مرآة الذات» ومعظمها تدور حول الإرهاب الذي ضرب العراق، وهذا ما تتناوله المقالة من خلال قصص ثلاث.
شارلي شابلن يموت وحده
يأتي «يحيى المنغولي» البريء البسيط؛ لإصلاح الساتلايت عند مصلح الأجهزة الدقيقة «شارلي شابلن» في مدينة أور، وبعد فحص، يخبره أن الجهاز صالح، لكن جهاز التحكم معطل، وعليه أن يشتري جهازا جديدا، لكن يحيى يخبره أنه لا يملك مالا، فيعطيه «شارلي شابلن» ما يكفيه، ويدله على محل قريب، فيذهب فرحا، ويشتري الجهاز، ويغادر مبتسما، وبعد مغادرته بقليل، يدوي انفجار رهيب قريب، وهرع الناس، وفجأة انقضوا على أحدهم يوسعونه ضربا وركلا، فأسرع «شارلي شابلن» وقد حدس ما يجري، فرأى «يحيى المنغولي» صريعا تحت أقدامهم وقد فارقته الحياة، وهو ممسك جهاز التحكم في يده، احتضنه باكيا، وأخبرهم حقيقة الأمر، وأنه ليس الإرهابي المفجر الذي يظنون. ثم دوى انفجار ثانٍ.
تصور هذه القصة مخاوف الناس وغضبهم وجراحهم النازفة، وكيف أن كل ذلك أفقدهم القدرة على التصرف بحكمة وتبصر، فنتيجة لتسرعهم ورغبتهم في الانتقام من الفاعل الدموي، تكالبوا على شخص بريء، وقتلوه، ظنا منهم أن جهاز التحكم هو جهاز تفجير عن بعد. مع أن «يحيى المنغولي» كان فرحا بجهازه، وكل همه أن يرى العالم من خلال الساتلايت، وهو المسكين الذي لا يستطيع الخروج من أور، ولا يعرف غيرها.
القصة ليست إدانة للناس، بل إدانة للإرهاب الذي ضرب أعماق الناس، وأدى إلى اضطرابهم وعدم قدرتهم على التمييز، فالكل ضحايا؛ إذ لا يسلم أحد من الإرهاب؛ فقد يكون هذا الإرهاب موتا، أو إصابة مؤثرة، أو نفسا مرعوبة، أو روحا ممزقة، أو بيتا أو متجرا مدمرا، وفي المحصلة، مجتمع مذعور شكاك مفكك.
رحلة الشاطر كلكامش إلى دار السلام
يذهب إلى بغداد، متجولا في معالمها وشوارعها، ويعرج على مكتباتها، ويشتري كتبا يكدسها في كيس أصفر، ثم يقصد موقف السيارات ليعود إلى مدينته، ويجد سيارة الكيا فارغة، والسائق خارج السيارة ينادي لجلب الركاب. ولما شعر بأن الوقت سيطول ترك كتبه وخرج يتجول بالقرب منه، ولما عاد رأى حالة التوتر والقلق والترقب حول السيارة، والسائق ينادي عليه، وأخبره بوجود عبوة ناسفة في السيارة، ووسط رعب السائق، يسأله: هل تقصد الكيس الأصفر؟ خلف مقعد السائق، إنها كتبي. فينهال عليه الجميع بالضرب والركل صارخين «إرهابي».
إنه الخوف عندما يتملك الناس من كل شيء غريب، مثير للشك، مركون جانبا، وحق لهم ذلك، فمن مأمنه يؤتى الحذر، وما تعانيه البلاد من موجات التفجير يبرر لهم خوفهم وشكهم ورعبهم من كل مجهول. ومع أنه أوضح لهم أنها مجرد كتب، لكنهم لم يرحموه، فقد سبب لهم الخوف والرعب، وعاشوا بسببه لحظات موت مرتقب. وكأنه عندما تدلهم الخطوب، وتسود لغة الشك، على كل أحد أن يوضح تصرفاته، ويزيل اللبس، ولا يترك شيئا لسوء الفهم والاستنتاجات الخاطئة التي قد تسبب ما لا يحمد عقباه. وتحتمل القصة تأويلا آخر؛ أن الكتب في حد ذاتها خطر؛ خطر على الجهل والغفلة والسائد والتطرف والظلم والفساد والترهل، ومن هنا لا يتقبلها ممن استكانوا للواقع الذي خدرهم، ويرفضون أي تغيير أو محاولة تغيير حتى إن أيقنوا أنها لصالحهم؛ لأن أي محاولة تغيير تتطلب ضريبة ما يرفضون أن يدفعوها أو يساهموا بقسط منها.
حقيبة الإرهابي ذي البذلة الأنيقة
في ساحة التحرير في بغداد، يجلس رجل أنيق، يحمل حقيبة دبلوماسية سوداء، يتكلم هاتفيا مع أحدهم بصوت مرتفع، ويقول «كيف آتي إليك وحقيبتي مكتظة بالدولارات؟ … أخاف أن أُسرق!». وما هي إلا لحظات حتى ينقض شاب ويسرق الحقيبة، ويولي هاربا، والمستغرب أن الرجل الأنيق لم ينزعج أو يستغيث أو يطلب العون من الشرطة القريبة، أو حتى يسرع وراء السارق، بل جلس مبتسما، وما هي إلا لحظات، بعد أن أيقن أن الشاب توغل وسط الزحام ليختفي بين الناس عن الملاحقة، أخرج هاتفه الخلوي، وضغط بضعة أرقام، فدوى انفجار وسط السوق مفجرا الحقيبة الدبلوماسية ومن حولها. إنها أساليب شيطانية، لا يقدر عليها إبليس نفسه، ومن يظن أن الأناقة والقوام الجميل، والحقيبة التي تدل على الغنى، تحمل في طياتها الموت والدمار؟ رفع الرجل صوته ليسمع الناس أنه غني يحمل أموالا طائلة، ليغري ضعاف النفوس بسرقته، وهو يعلم ظروف الناس وفقرهم وعوزهم، فنجحت خطته، وهرب الشاب يحمل موته بيده، وانفجر وسط السوق مخلفا موتا وأشلاء ودماء ودمارا ودموعا لن تجف.
الإرهاب يتمتع بالذكاء والقدرة الفائقة على التخطيط واستغلال الفرص ودراسة نفسيات الناس وظروفهم، ومن هنا، وجب أن تكون أجهزة الدولة، أي دولة، أذكى من الإرهاب، متقدمة عليه، وأقدر على مجابهته وإفشال خططه. ولا توجد دولة في العالم بمنأى عن الإرهاب مهما ظنت أنها بعيدة ولا مطامع للإرهابيين فيها، فلا أحد يستطيع أن يعرف حقيقة تفكير المنظمات الإرهابية وأهدافها وما تسعى إليه.
سلطت معظم قصص المجموعة الضوء على الإرهاب وشبهات الإرهاب وما يحدثه الإرهاب في النفوس من خوف وشك وريبة وتسرع، لكن يجب أن لا ننسى أن الإرهاب لا يقتصر على جماعات أو منظمات لها أهداف سوداوية، ومآرب دموية، فإرهاب الدول أشد وأنكى، فبعض الدول تتعامل بمنطق العصابات والمافيات والمنظمات الإرهابية، لكن بلطجتها محمية بالقانون الدولي الجائر الذي يساند القوي، ويتحامل على الضعيف.
اللافت في قصص علي السباعي أن قصصه لم تأتِ حصرا عن الإرهاب، بل جاء الإرهاب في سياق حياة تنشد أن تكون طبيعية، تتعالى على الجراح والآلام والصعوبات، وفي خضم ذلك تأتي عملية إرهابية تجهض الحلم، وتسوّد عيشة الناس، وتراكم لهم المعاناة ونزف الجراح والفقد والفجيعة والحزن الذي يأبى أن يغادرهم.