سهيل سامي نادر: مؤانسات "حي 14 تمّوز" ومراثيه

2023-03-11

دنى غالي

"ها أنت ترى أنّ التاريخ ينتصر على الحياة والكتابة الإبداعية. إنّ نصف عُمر المجتمع الذي تُولَد فيه الروايات، كما تفترض، ضاع كالبول في شطّ". ولكنّ الكاتب والصحافي العراقي سهيل سامي نادر (1943) أنقذ عقوداً من هذا العمر بتأريخها في روايته الجديدة "حي 14 تمّوز" (دار المدى، 2023)، والتي يُشير عنوانها إلى الحيّ البغدادي، مكان الحدث الذي انطلق منه السارد ليتمّم حكايات صِبْية يطلّون على أرواح بعضهم البعض عبر مقاطع سردية مُعنونة، تبدأ بالمراهقة والمحلّة والمدرسة، وتلتفّ مجيئاً ورواحاً حول أساسات هؤلاء الصبية الاجتماعية.

بإيقاع موسيقي ضمني، وبلغةٍ رشيقة تتحدّى مناعتها عبر ضربات قوية وناعمة، وبجُمَلٍ ذكية مختزلة تُفصح عن غنى التجربة، نتابع مصائر الشخصيات، حين يطبق على المجتمع ظلامُ نظامِ الحزب الواحد وسياسة الحروب التي جرى انتهاجها في "المؤانسات" ومِن ثمّ "المراثي"، وهما قسما الرواية التي فصّلت مجريات الحرب وما انتهى إليه أبطالها.

نجد عبث الحياة وفظاظة السياسة في ما لا حصر له من الوقائع السيرية التي انطوت عليها تلك المقاطع السردية، أبرزها "التجسّس على صدّام حسين والرحيل الى الحرب"، وهو عنوان توضيحي يعوّل الكاتب على خاتمته، "لحن الخلود"، ليبرز تهكّميته، إنْ كان للمُزاح محلٌّ هنا (لا يبدو أنّ للسارد خياراً آخر) في وصف المناخ الخانق الذي هيمن وساد فترة الحرب العراقية الإيرانية.

ولا أظنّ أن أحداً تصيبه لوعة الحنين إلى استعادة أجواء أفلام صدّام الإخبارية التي كانت تُبَثّ خلال جولاته التفقّدية وفتحه لقدور التمن والمرق في بيوت الناس المرتجفة خوفاً من الإتيان على قول كلمة ليست في محلّها. لنعترفْ أنّ مقاومةً غريبة بداخلنا تواجه بالضرورة التفاصيلَ التي أمعن سهيل سامي نادر في ذكرها، ولكنْ كما لو أنّ الفعل كان محسوباً، إلى حدٍّ ما، وهو يتدارك الموقف ويطلب منّا الابتعاد بقوله الهازئ: "الأفضل أن نتخيّل إمكانية قرْدٍ ينجح بتسلّق جسد القائد والوقوف على رأسه، وتوقُّع ما يحدث بعد ذلك مِن هرجٍ ومرج".

وقد نحسبه ساديّةً منه، ذلك التمهّل في سرد يوميات هذه الفترة التي تصف جبروت هذا الكائن وبطشه. ولكنّ للكاتب "سوءَ حظ"، وهو للمفارقة عنوان كتابه الذي صدر عن "دار المدى" عام 2020، ولخّص فيه سيرته المهنية كصحافي عبر توقُّفات أظهرت شروط حياته المخيفة، والتي كانت عاملاً حاسماً في تقليص إنجازه الشخصي على مرّ حياته، وكلّفته انسحابه لتلافي الاستهداف المستمرّ وغير المفهوم من قِبَل السلطات التي تعاقبت على حُكم البلد.

في رواية "التل" (المدى، 2007)، كان ثمّة أسرار كثيرة حاول الكاتب الدوران والتنقيب في تكويناتها، في تفريش المساحة من حول كلٍّ منها، بنعومة وحذر وببطء، من أجل إزالة الغبار وفكّ الألغاز لأدلّة مادية مدفونة. أمّا في "حي 14 تمّوز"، مع تضارب روح الجدّ بروح الهزل، والعقل باللاعقل، فقد خشي أنه قد اخترع كلّ هؤلاء الأصدقاء، الذين اختفى جزء كبير منهم، كما يأتي في السرد، أو صَعُبَ عليه تصديق نسخهم الجديدة لانتهازيتهم. يقف خلف كلّ ذلك، ولا شكّ، جحيمه الخاص وتمزّقاته، والواقع الذي فُرِضَ عليه، والخيارات القسرية التي حدّدت حياته المهنية، وتكميم الأصوات، والقهر والمعاناة الإنسانية اللذين تعرّض ويتعرّض لهما الكائن الذي ما يزال هناك، وهو موقفٌ يتبدّى جلياً بمعارضته لنظام بوليسي وقرارات رعناء. كانت الأشياء على السطح، واضحة، مباشرة، بالبشاعة التي لحقتها وبإيقاعٍ تلاعَب به طيلة السرد حتى شارَفَ على "الشَحْط" قُرب ضربة الختام.

كاتبة ومترجمة عراقية مقيمة في كوبنهاغن








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي