
سعيد نجدي
يصف القاضي جعفر بن منصور اليمن (وهو أحد الدعاة الإسماعيلية للعرفان السياسي) في القرن الثالث عشر في كتابه «العالـِم والغلام» بشكل روائي درامي كيفية تلقين العلم بشكل ممتع، الا أنه يحتوي على بعد أيديولوجي، لأن النصوص العرفانية للإسماعيلية تنطوي على بعد سياسي من خلال الدعاة، لأنهم لسان الدعوة الهادية وهم المشرفون على توزيع المستجيبين وعلى ثقافتهم في الأقاليم، خصوصا التأويل الباطني لديهم وممثولاته التي تتوجه كلها صوب الدعوة والدعاة، بدءا من العقل الكلي نزولا إلى العالم السفلي، لكن النقد ليس على طريقة أبو حامد الغزالي وابن حزم التشنيعية الأيديولوجية في حروبهم الفكرية لهذا الفكر، الذي فيه الكثير من الأبعاد والدلالات الإنسانية، التي جاءت في رد علي بن الوليد في دامغ الباطل على تلك التشنيعات..
إن المريد (المستجيب) أشبه بالطفل بمعنى، لا يستطيع تناول كميات كبيرة من الطعام في البداية حتى لا يموت، وهذا أشبه بالرعاية الرعوية للأب الروحي عند المسيحية مثلا يقول القديس يوحنا عن الأب الروحي «لا تفلت من يديّ الذي حملك إلى الرب فإنك لن تجلَّ في حياتك أحدا نظير له» لأنه المعلم الذي يعطي (الميتانيا) التوبة. وكذلك أشار أرسطو في الفرق بين الأب الطبيعي والأب الروحي، أي معلم الحكمة ولتهيئة المستجيب ليصبح مكاسرا، أي لكسر الخصوم، يظهر مقطعا في رغبة المتلقي بشكل مشوق بعد عملية الترغيب «هل من سبيل لي لكي أحيا؟ كن رحيما فأنت أيضا كنت مرة في مثل وضعي الحالي، وهذا الذي تدعو إليه ما هو؟ من أين يأتي؟ وإلى أي جهة يقود؟» وهذه العملية هي الرضاع الباطني للمعرفة.
وعلى هذا المنوال يورد الداعي النيسابوري أيضا في شروط الدعوة الهادية مقطعا يظهر ما نحن في صدده «إنكم ستوضعون في موضع الاختبار لأنكم مبتدئون والمبتدئ مثل الطفل الرضيع، فأنت تبدأ بإطعامه الحليب وفي ما بعد تعطيه المزيد من الطعام المغذي، فإذا ما أطعمته كثيرا من بداية تكوينه فإنك تدمره». تظهر هذه النصوص البعد الذاتي لجهة التصوير بأن هذه الإنتلجنسيا هي الخازنة للمعنى. مثلا يشير القاضي النعمان بن حيون في أساس التأويل نصا للدلالة على المعرفة التي لا تنتهي لديه «آنية وضعت تحت سماء ممطرة وكانت ذات جوف أخذت من الماء بقدر سعتها وفتحتها». هذه الإشكالية بين العالِم والغلام تظهر مدى التحكم السلطوي، في الظاهر تبدو جميلة لكن في اللب تظهر البعد في رغبة التحكم..
يشير المستشرق الألماني هاينز هالم إلى أن هذه الدعوة التعليمية، مفادها أن الشرور تعود إلى ابتعاد الأرواح عن الله، وبهذا فقد انحبست بالمادة وهي لا تعرف منشأها الذي تفصلها عنه العوالم الأخرى، والمعرفة هي القادرة على إنقاذها وإعادتها إلى منشئها، ويحصل هذا من خلال اتباع الدعاة أي في حقل السلطة، لأنهم طقس العبور للعالم الروحاني، على قاعدة المثل والممثول التي تحدث عنها الكرماني في راحة العقل.. كان أبو عبد الله الشيعي داعي الدعاة يعتمد إشارة وضع الأصبع على الأفواه إشارة إلى ائتمان المنتسب على سر خطير، والداعي هو أشبه بالقديس في المسيحية، لأنهم أولياء الله في الإسلام، وهكذا تتم عملية انضمام المنتسبين إلى الإخوان بأخذ العهد، وفي حوار بين العالم والغلام يشير فيه هالم إلى كيفية تحرير الغلام بواسطة الداعي من العبودية، وهي عملية عن إعطاء اسم جديد للغلام وهذه تعد ولادة جديدة بعد مرور سبعة أيام..
وهناك مقالة للباحث المنصف بن عبد الجليل يتحدث فيها التعليم للفرق الباطنية بعامة والنصيرية بخاصة، قد تعطينا فكرة مهمة، وهي حول التعليق، أي أن يطوي الداعي عنه المتعلم جوانب هذه الشكوك إذا هو استكشفه عنها، ولا ينفّس عنه أصلاً، بل يتركه معلقاً ويهول الأمر عليه ويعظّمه في نفسه ويقول له: لا تعجل، فإن الدين أجلّ أن يعبث به، أو أن يوضع في غير موضعه ويُكشف لغير أهله، هيهات هيهات. وهذه العملية تعليم حسبما ينقل عن الغزالي بتسع درجات: الزرق والتفرس، ثم التأنيث، ثم التشكيك، ثم التعليق، ثم الربط، ثم التدليس، ثم التلبيس، ثم الخلع، ثم السلخ. وهذه لها شروط أن يكون المريد ذكراً، لأن الأنثى لا تشترك في أمر الدين، وأن يكون من أب وأم نصيريين، وأن يكون الفتى قد بلغ الخامسة عشرة أو الثامنة عشرة أو العشرين من عمره وكذلك من الشروط أن تشهد له جماعة من عدول القوم بالنباهة، وأن لا يعلم أب ابنه وأن لا ينقطع عن الشيخ الذي قبله إلى غيره، إلا إذا انتقل إلى مكان آخر وعجز المريد عن المسير إليه، فلإمام تلك المدينة أن ينقله إلى من يختاره وإذا مات الشيخ المعلم فعلى المريد أن يعيد التعليق من جديد، وللشيخ وحده أن يفسخ التعليق، لأن الشيخ بمنزلة البعل والمريد بمنزلة الزوجة، ولا يحق للزوجة أن تطلق وإنما الطلاق بيد الزوج، أما المدة فإنها تتراوح بين ستة أشهر أقصرها، وتسعة وهي أوسطها، وأربع سنين وهي أكثرها والسبب أن وقوع العلم هو بمثابة وقوع النطفة وتربية الجنين وما وراء ذلك من الرضاعة بعد الولادة. ومن الشروط أن يلتزم المريد ولا يكشف شيئاً من سر الديانة وإلا استحق القتل..
وكانت مراسم الاحتفال الطقوسية تمر بثلاثة اجتماعات أمام الناس يطلب من الشيخ الملقب بالإمام وضع الفتى أحذية الحاضرين على رأسه تعبيراً عن الطاعة، ويضع حذاء معلمه قبولاً ورضى وخضوعاً، ثم يأخذهم النقيب إلى سيده فيقبل يديه ورجليه والأرض بين يديه. ثم يتناول قدحاً من الخمر كذلك الناس الحاضرة، وكان يسمى العالم في ذلك الوقت (العم السيد) ويلقى على الغلام عبارة (بسرّ عين ميم سين) يعني ذلك علي، محمد، سلمان، والاجتماع الثاني يتم بعد أربعين يوماً ويسمونه (جميعة المليك) ويتلو سرّ عمس كل يوم خمسمئة مرّة، أما الاجتماع الثالث فبعد ستة أو تسعة أشهر، ويرددون بعض الترانيم، وبعد عدة مراحل يعطى كتاب (المجموع) أقدس الكتب النصيرية لاحتوائها السور الستَّ عشرة، وأيضاً يشير الكاتب إلى مفهوم النكاح السماع، وهو المماثلة بالعلم لكن على تشبيه من العلاقة بين الزوج والزوجة لأنها تحوي البناء والمدة، والحقوق الواجبات تعبيراً عن الملكية الروحية لأن الفتى للعلم كحمل المرأة للنطفة..
إلى ماذا تأخذنا هذه الإشارات الرمزية في كيفية العلاقة التسلطية والتحكمية التي نقوم باستدعائها، والتي كانت إلى حد كبير تغيب مفهوم التوحيد لصالح حقل السلطة من خلال خلق هذه الوسائط التحكمية، وهي ما تزال حتى الآن، لكنها انتقلت بشكل جديد، إلا أن رمزية وعقلية التسلط في التلقين المعرفي ما تزال ماثلة نلاحظ تمثلاتها في بعض الأحيان مع أفراد في المؤسسات الحديثة كالجامعة والمعاهد ومراكز الدراسات، إذن المحتوى قد يتغير لكن المضمون أي العقلية ربما تبقى متوزعة على عدة نماذج، وإن كانت ذات محتوى تحديثي طالما بقيت في ضروب التوكيديات الأيديولوجية المكاسرة، فكما أن هذه الوسائط كانت تشكل حاجبا تحرريا مع مفهوم التوحيد ينطوي على التحكم بالنفس والجسد، كذلك فإنه اليوم وإن كانت العلاقة في مؤسسة حديثة ما يزال هناك العديد من الوسائط الأيديولوجية وباسم العلم تشكل حاجباً تحكمياً مع المعرفة، طالما أنها تلقن بشكل جاهز ومسبق..
باحث من لبنان