
علجية حسيني
قد يختلف البشر في تفاصيل كثيرة مثل الدين والعرق والجنس والطبقة الاجتماعية والثقافة. لكن رغم هذه الفوارق يمكن أن يحمل المختلفون قصة واحدة مشتركة. الاشتراك في قصة واحدة يربط ثلاث شخصيات في رواية «كرنفال القرود الثلاثة» للكاتب التونسي أحمد وليد الفرشيشي. إذ يتقاسم الراوي وسارة و»ك» حياة متشابهة. وقد عبر عنه في جملتين، «هل كنت أروي تفاصيله هو أم تفاصيلي أنا؟» و»كنت هشا مثلها». قصة حياة حزينة توحد الشخصيات الثلاث. ويركز الراوي على التفاصيل المتشابهة التي تربطه بسارة و»ك».
الأب القاسي:
يشترك الآباء في صفة القسوة وعدم الاكتراث بمصير أبنائهم. تحمل كل شخصية صورة سلبية عن الأب. أب الراوي طرد ابنه من البيت رغم صغر سنه ليترك ابنة الأرملة قربه. فهو شخص يفتقد الرحمة تجاه عائلته، خاصة زوجته، «من ذا الذي كان يجرؤ على مناقشة الكولونيل؟ أمي؟ أمي هي امرأة هوامش في حياة أبي، كبرت في ظل حكاياته». ولا يختلف أب سارة عن أب الراوية فهو بدوره تخلى عن عائلته وطلق أمها ليغيب عن حياتها. وهو ما سبب كرهها له، «ومع ذلك حلّ الكره في قلب سارة ذات يوم، حين طلَق أمها». يشترك الابوان، أيضا، في صفتي الانتهازية والوصولية، «كان أبوها ماويا منذورا، لأن يصبح واجهة النظام الجديد الاستهلاكي». ويشبهه أب الراوي فهو، «ماوي منذور لأن يصبح واجهة استهلاكية لأي نظام». مثلما تربى الراوي مطرودا من البيت، سارة كبرت دون أب، «كبرت سارة في غياب أبيها». ويعرف أب «ك» بالعنف والقسوة، «كان أبوه وغدا حقيقيا في شبابه، ومتطفلا على الحياة، وواحدا من أولئك الأوباش الذين شقوا طريقهم في الحياة بقبضاتهم». وهو، أيضا، طلق زوجته وتخلى عن أبنائه ليتزوج بامرأة أخرى.
الأم الضعيفة والعاجزة:
أمهات الشخصيات الثلاث ضعيفات وعاجزات عن مواجهة ظلم ازواجهن، أم سارة تركها زوجها ولم تستطع مواجهته لتدخل في حالة اكتئاب وعالم داخلي مريض. «ك» ترك القرية هربا من دموع أمه، «في تلك السن المبكرة أيقن «ك» أن الجلوس على حافة الجحيم أفضل من الاستيقاظ على دموع أمه». وعجزت أم الراوي عن منع زوجها من طرد ابنها. وأخفت زياراتها إلى ابنها خوفا من زوجها.
فقدان التوازن النفسي:
تعاني الشخصيات الثلاث من ذاكرة مريضة نتيجة طفولة غير مستقرة. عجز ثلاثتهم عن محو مقاطع ذكرى معاناة أمهاتهم وقسوة آبائهم. ذاكرة «ك» فارغة. ولا يحتفظ في داخلها إلا بكلبته ودموع أمه، «ما الذي تتذكره عن حياتك السابقة؟»
ـ لا شيء ، باستثناء رائحة هذه الكلبة، ورموش أمي المبللة بالدموع». تمثل ذاكرة الراوي «بؤرة توتر» تنخر روحه كلما استرجع حكايات تذكره بأبيه، «كانت حكايات نتنة ومكومة أمام جنته، عففت عن أن التقطها، وأرمم بها ذاكرتي المعطوبة». لم يتخلص من ألم ذكرى طرده من البيت الذي كان سببا في موت أمه، «بيد أني عجزت عن محو حكاية طردي من البيت. قبل موت أمي بشهرين». لم تسامح سارة أباها لأنه تسبب في مرض أمها. قاد التعب النفسي الشخصيات الثلاث إلى فقدان التوازن وخلق أشباح والحديث إليهم. «ك» يحدث كلبة قتلت عندما كان طفلا، « قال ك. للكلبة إن أباه كان يسخط حين يراهم يصرخون من الجوع». الراوي يتحدث إلى شبح «ك». ويعاني من كوابيس تثقل ذاكرته وروحه ويصعب التخلص منها، «أريد أن أطرد كل الكوابيس طالما أني ما زلت حرا. كوابيسي، وكوابيس «ك» وسارة أيضا. أحب أن أتخلص من كل هذه الضوضاء داخل رأسي». سارة تعيش في عالم من الأشباح والأصوات الداخلية، «ستحول فراغ البيت ﺇلى أوركسترا من الأصوات الداخلية، تلوذ بها من الصمت المطبق على حياتها».
الحاجة إلى الآخر:
ينجذب الراوي، الشخصية المحورية في الرواية، ﺇلى سارة و«ك» لتشابه قصته مع قصتهما وأيضا لأنه يحتاج إليهما، «كلانا يحتاج الآخر… علاقة الضجر بالشبح، الكاتب بالإرهابي، المنبوذ بالمنبوذ». أما انجذابه لسارة فسببه أنهما عالقان في معاناة المرض. كلاهما يعيش اضطرابا نفسانيا، «كنا مريضين، يسعى كلاهما الى إخفاء علامات مرضه بالتكرار والمحو». لم تكن علاقتهما طبيعية لأنها استعملت مثل جسر نحو التحرر من المرض وإنهاء المعاناة. توقع أن تساعده في شفاء ذاكرته والتحرر من الكوابيس. وتأملت سارة أن تكون علاقتها بالراوي وسيلة لإيقاف هلوساتها وإسكات أصوات أشباحها، «خمنت سارة أني سأكون الصوت الوحيد الذي سيخرس بقية الأصوات داخل رأسها ، بينما فكرت أنا أني سأضع أخيرا قدمي على اليابسة».
كاتبة تونسية