كريم الفحل الشرقاوي: يقوم تجريبي المسرحي على رهان الفنتازيا النقدية

متابعات - الأمة برس
2023-03-04

حاوره: عبد اللطيف الوراري

كريم الفحل الشرقاوي مؤلف ومخرج مسرحي مغربي. بدأ مع جماعة الاحتفاليين في ذروة نشاطها، ثم سرعان ما استقل بمسرحه الخاص، الذي يراهن على تجريب الثيمات وأساليب الكتابة الدرامية والرؤى الإخراجية، من منظور جدلي يربط بين الكتابة وشرطها السياسي والنقدي. أبدع من هذا المنظور عدة نصوص مسرحية تأليفا وإخراجا، وبعضها عمل على مسرحته انطلاقا من نصوص روائية ومسرحية ومقالية ولوحات تشكيلية، وقد قدمها في العديد من المهرجانات المغربية والعربية، ونال عنها جوائز رفيعة، مثل: «أهل المخابئ» و»الفأر الرمادي» و»الحجاب» و»الحذاء» و»قصائد البرج المائي» و»الهاتف الأحمر» و»الرجل الذي باع الشمس» ومسرحيته «التمثال» التي قدمها في ثلاث معالجات درامية وثلاث رؤى إخراجية، وهي الأكثر تتويجا في تاريخ المسرح المغربي، فقد حصدت ثلاث عشرة جائزة في موسم واحد. صدرت له في عام وباء كورونا المعولم مسرحية بعنوان: «في حضرة الشيخ القوقل» التي كتبها في نسختين ومعالجتين؛ معالجة درامية (أربع شخصيات) ومعالجة مونودرامية (شخصية واحدة) وهي تقدم بلغة غروتيسكية لاذعة شخصية الشيخ الفنتازية التي تسعى بعد انقراض الزمن الورقي، واختفاء الكتب وكل المنشورات الورقية إلى إبرام عقد احتكاري مع آخر بائع للكتب في كل الأزمنة. يقول الكاتب والأكاديمي خالد أمين: «المتتبع لأعمال كريم الفحل الشرقاوي سيلمس هذه الرؤية الكابوسية بوصفها استشرافا لجمالية الغروتيسك الذي يعمل على المزج بين المأساوية والسخرية، حيث تنصهر تلك الرؤية المأساوية بسخرية لاذعة واضعة المتلقي أمام حالات وجدانية تجعله وجها لوجه مع الضحك والبكاء في اللحظة نفسها «.

إن الحساسيات الجديدة في المسرح العربي تنفلت من سلطة الأطروحات التأصيلية

ما الذي قادك إلى المسرح والشغف به كمغامرة في الحياة؟

في المسرح المدرسي لابتدائية الإمام مالك في مدينة فاس المغربية كانت أولى خطواتي على الخشبة. كانت أشبه بخطوة أرمسترونغ على كوكب القمر.. خطوة صغيرة لإنسان لكنها قفزة كبيرة للبشرية. لقد أحس ذلك الطفل الذي ما زال يسكنني بأنه يخطو فوق كوكب خرافي، حيث في إمكانه استحضار كل العوالم الممكنة والمستحيلة.. الأسطورية والآنية.. العجائبية والواقعية.. الفنتازية واليومية.. المتخيلة والحقيقية. كما يمكنه الانسلاخ من جلده وهويته ليتلبس جلد وهوية كل الشخوص الممكنة والمحتملة. هذا هو الشغف الكبير الذي استبد بذلك الطفل وقذف به إلى عوالم المسرح وفرجاته الممتعة.

لوحظ افتتانك بالتجريب المسرحي تأليفا وإخراجا منذ بداياتك الأولى. ما الذي يعكسه هذا التجريب في فهمك للمسرح واشتغالك عليه كنص ورؤية مأساوية للعالم؟

إن فلسفة التجريب تسعى لترسيخ الخطاب النقيض.. الخطاب المستفز والصدامي حيث يجنح بها وعيها النقدي إلى إعادة النظر في معتقداتها ومرتكزاتها ويقينياتها باستمرار، لأجل اكتشاف قارات منفية ومجاهل معتمة وكهوف مقصية من دائرة الضوء، معيدة بذلك تفكيك آليات الخطاب الممركز والمهيمن، وهتك علاماته ورموزه ودواله، وخلخلة نظمه الجامدة والفاقدة لروح الإبداع والتدفق والتجديد. لذلك يراهن المسرح التجريبي على الاختلاف بدل الائتلاف، والتعددي بدل الواحدي، والنسبي بدل المطلق، والهامشي بدل المركزي، والدينامي بدل الثابت، والصيروري بدل الخطي، والحواري بدل المونولوج. مثل هذه الفلسفة داخل العمل المسرحي التجريب تتطلب بالضرورة المغامرة في الإبداع، والتحرر من الاتباع، والبينونة في الرأي، والحوار بين الأضداد، والتعددية في الاختيارات، والاختلاف في المعتقدات، واقتحام دائرة المنسي والهامشي والمغلق، وإطلاق سراح الأسئلة الشائكة والمؤرقة، واستئصال أورام اليقيني والنمطي والمتكلس، وهدم أسوار وقلاع السائد والبائد، واختراق معاقل التقليدي والسري والأبوي، وتمزيق أحزمة المهجن والمدجن والآسن، واستنفار آليات الوعي النقدي الضدي، ومناهضة كل وثنية فكرية أو صنمية مذهبية أو فتشية فردية أو فئوية أو طبقية أو ظلامية، تصادر حرية وهوية الاختلاف.

لهذا يظل التجريب سؤالا مسننا يهتك ثنايا الملفوف والمسلم به. إنه دق للأجراس، كل الأجراس الكاشفة والفاضحة لعورات المجهول والمدفون والمحنط. هذه الرهانات، السابق ذكرها، هي التي حفزتني للتسلح بآليات التجريب، علما بأن جيلي – جيل تسعينيات القرن الماضي – ولد إبداعيا وفي فمه ملعقة من معدن ملتهب بالأسئلة الحارقة التي فجرها جيل السبعينيات، كالتجريب والتأصيل والتأسيس، والتي تشكلت إرهاصاتها انطلاقا من الوعي الممزق بين الذات والآخر.. الهوية والغيرية.. الأصالة والمعاصرة. هذه المفاهيم اشتعل أوارها خصوصا بعد نكسة حزيران/يونيو1967، مفجرة أسئلة ساخنة لدى الأيديولوجيين والمفكرين والمثقفين والأدباء والمسرحيين.

وفي خضم هذه التجاذبات والتقاطبات الأيديولوجية والفكرية المتناحرة، سينشط الكثير من الدعوات المسرحية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وبعضها كان يدعو إلى ضرورة الانكفاء على أصالة المسرح العربي بالعودة إلى منابع الموروث المحلي والعربي لدحض الاستلاب والتغريب والانفلات من شرنقة الثقافة الغربية المهيمنة، في حين سيذهب البعض الآخر إلى حتمية تبني المسرح كفن وافد وجنس أدبي وفرجوي غربي خالص. بينما راهنت فئة ثالثة على ممارسة حداثتها التجريبية والتأصيلية داخل مساحات البينية التي تتأرجح بين الذات والآخر، حيث سعى العديد من البيانات والتنظيرات إلى الدعوة إلى تأصيل المسرح في التربة الثقافية العربية، كما هو الحال بالنسبة لتوفيق الحكيم، والبحث عن قالب مسرحي عربي، ويوسف إدريس والسامر الشعبي، وعبد الكريم برشيد والمسرح الاحتفالي، وسعد الله ونوس ومسرح التسييس، وروجيه عساف ومسرح الحكواتي، وصالح سعد وجماعة السرادق المصرية، ونادر عمران وجماعة الفوانيس الأردنية، وعبد القادر علولة ومسرح القوال الجزائري، والطيب الصديقي ومسرح البساط المغربي وغيرها من التجارب التي كانت تتغيا استلهام المأثور الشعبي من خلال تجريب تأسيسي ينهل من الموروث العربي الإسلامي، كما ينهل من تقنيات المسرح الغربي وتجاربه الطليعية، خصوصا ملحمية بريشت على نحو ما أدى إلى إفراز هجنة مسرحية ما بعد كولونيالية.

إلا أن هذه التجارب التأصيلية التي تنهل من المأثور الشعبي والفرجات الشعبية على مستوى النص والعرض سيخفت صوتها وينكمش حضورها مع بداية الألفية الثالثة، حيث ستختار الحساسيات الجديدة في المسرح العربي، وأنا ضمنها، الانفلات من سلطة الأطروحات التأصيلية الهجينة والانفتاح على رهانات تجريبية بيثقافية متجددة تتحاور وتتفاعل مع المشترك الإنساني دونما السقوط في دائرة التمركز التأصيلي للموروث العربي الإسلامي أو التمركز الثقافي الغربي المهيمن، باعتبار أن الفرجة المسرحية حقل مثخن بالتداولات التفاعلية البينية والحوار البيثقافي ومجال عابر للحدود والهويات، وهو ما يتماشى مع رهانات المثاقفة وآفاق التناسج الثقافي والآليات التفكيكية للفكر المعاصر، الذي يحتفي بهوية الاختلاف والصيرورة في مواجهة قداسة الأصل والأصيل وتمركز الهويات والماهيات المطلقة.

يلاحظ المتتبع هذا التجريب في نصوصك الجديدة مثل «في حضرة الشيخ القوقل» و»حشرة القلاس». لكن رغم وفائك الظاهر لآليات الشكل الدراماتورجي المنفتح، إلا أن النص أو ذاك يعبر ثيماتيكيا عن نقد سياسي وفلسفي ساخر ومبطن في ظل الظروف الكارثية التي يمر بها عالمنا المعاصر وما يحدق به من مخاطر مرعبة. كيف تزاوج بين رهان التجريب وخاصية الفرجة؟

الكتابة المسرحية بالنسبة لي عبارة عن سرديات صغرى تتحاشى السقوط في أحضان سردية كبرى ناظمة لنسقها الشمولي وحقيقتها الممركزة. فكل نص من نصوصي الدرامية – كما الركحية – هو عالم مستقل بذاته بمعزل عما سبقه أو يتلوه من نصوص. هذه النصوص الراصدة للتشوهات الخرافية التي تتناسل بهوس مرضي في عالمنا المعاصر تتوسل غالبا بالحكاية وخيوطها المتشابكة والمتكاثفة، إلا أن رهان التجريب في تصوري يمتطي جماليات الفنتازيا والغروتيسك والسخرية السوداء اللاذعة واللاسعة التي تخترق الحكاية واللغة والشخوص والأفضية… وهو ما نلمسه كذلك في الكتابات الدرامية المعاصرة ما بعد الطليعية التي استعادت الحكاية والحدث اليومي ليس بهدف تكريسهما، بل بجعلهما مادة سائلة تتخذ أشكالا متغايرة وتنحرف نحو مسارب متشظية، كما هو الحال بالنسبة إلى رواد الكتابة الدرامية المعاصرة كنصوص كولتيس وشيرو وفينافير وغيرهم. وإذا ما استدعينا مثلا نصي الدرامي «أهل المخابئ» فستجده يلتقط حكاية مدن مخبئية تحت الأرض يستوطن قاطنوها السراديب والحفر. إنهم يستوطنون اللامكان أو هيتيروتوبيا فوكوية (نسبة إلى فوكو) تتشكل من عوالم غرائبية فنتازية تتمظهر بدورها في شبكة النص بما فيها الشخوص وفلسفاتهم وأحلامهم، كما هو الحال بالنسبة إلى شخصية «ملفوف» وهو رجل دون جلد، يحلم بأن يخلع على الناس جميعا جلدا محايدا، وأيضا شخصية النصف وهو رجل أو نصف رجل ولد دون نصفه السفلي، ورغم ذلك يؤمن بأنه سينجب من صلبه المخلص الذي يحرر أهل المخابئ وكل المخبئيين أجمعين. رهان الفنتازيا النقدية تجده كذلك في نص «في حضرة الشيخ القوقل» الذي يمسرح محرك غوغل الشهير كشخصية مندمجة في الصراع الدرامي بين الزمن الورقي والزمن الرقمي.

كيف تنظر إلى الظاهرة الفرجوية ما بعد الحداثية التي أعادت النظر في مفهوم المسرح وعملت على تثوير أبعاده الدراماتورجية والجمالية؟

إن الظاهرة الفرجوية ما بعد الحداثية تشكل خلفية فلسفية لمسرح ما بعد الدراما، كما نظر له الباحث الألماني هانز تيز ليمان الذي يشكل ثورة جمالية ما بعد طليعية تتجاوز الثوابت الراسخة للدراما السائدة بكل أنساقها الأرسطية والملحمية والطليعية، حيث يحتفي مسرح ما بعد الدراما بالتشذر والتفكيك والتشظي وانتفاء الغائية والخطاب الرسالي، كما يعمل على تخطى السلطة التراتبية للنص الأدبي والنسقية الخطية والمحاكاة والإيهام والصراع الدرامي والأداء السيكولوجي للممثل؛ لكون مسرح ما بعد الدراما فرجة تحتفي بالممثل كدال وليس كدلالة، ليتحول جسد الممثل بذلك إلى علامة داخل غابة من العلامات المتشظية، التي لا تسعى إلى لملمة الخلاصات وتدبيج الأنساق المكتملة بقدر ما تسعى إلى تفجير عالم من الجزئيات البلورية الشفافة المثيرة تزامنيا لمدركات المتلقي. وهو ما يتقاطع مع جماليات ما بعد الحداثة التي تحتفي بالمضادات الساخرة والشيفرات المضاعفة والانشطارية الخلاقة والهرمونية المتنافرة والانسجام النشاز والغروتيسك الفاضح والتناقض الصاخب والتحايل والانحراف والتآكل والاندثار والامحاء وتأجيل المعنى، بهدف هدم ونسف أي سردية شمولية أو نزعة متجوهرة، وأي نواة متمركزة، وأي بدعة أصيلة تدعي التناسق والخلود والمطلق، من خلال استعداء البنيات الفنية ضد بعضها بعضا والاحتفاء بالمتشظيات اليومية.

من خلال مشاركتك في فعاليات مهرجان المسرح العربي الذي نظمته الهيئة العربية للمسرح في مدينة الدار البيضاء في مطلع هذا العام، ما تقييمك للنصوص المسرحية؟ وهل ثمة سمات أو ملامح أثارت انتباهك أثناء عرضها؟

للحقيقة وللتاريخ فإن الدورة 13 لمهرجان المسرح العربي التي نظمتها الهيئة العربية بشراكة مع وزارة الثقافة المغربية، اعتبرت من أهم وأقوى الدورات لكونها حققت نجاحا كبيرا، سواء على مستوى التنظيم المحكم، أو على مستوى الأوراش والندوات الفكرية والقراءات النقدية التطبيقية للعروض، أو على مستوى الفرجات المسرحية للفرق العربية المشاركة. أما بالنسبة لسؤالكم حول تقييمي للنصوص المسرحية المشاركة في هذه الدورة، فإنها ما تزال تجتر الثيمات نفسها التي يدور في فلكها مسرحنا العربي، مع تسجيل الحضور القوي للكتابة الركحية أو نص المخرج، بحيث يكاد يتوارى مؤلف النص الدرامي خلف مؤلف العرض المسرحي.

ما هو مستقبل المسرح في المغرب؟ وهل يمكن الرهان على مهرجانات نوعية لتظل الظاهرة المسرحية جزءا من مشهد ثقافي متحول؟

المسرح المغربي رصصت أرضيته الصلبة أعمال رواده الكبار والتجارب المتوهجة لمسرح الهواة وإشراقات الخريجين، وتؤثثه الآن الحساسية المسرحية الجديدة كامتداد مشرق لكل هذه التجارب الخلاقة. وبالتالي فمستقبل المسرح المغربي بلغتيه العربية والأمازيغية، سوف يواصل إشعاعه الخلاق مستفيدا من هذا التراكم الزاخر للفرجة المسرحية بكل روافدها ومشاربها. أما في ما يتعلق بالمهرجانات المسرحية، فإن دورها الإشعاعي مهم جدا باعتبارها سوقا فنية وفرجوية تؤجج التفاعل بين التجارب، وتحفز التلاقح بين الاختيارات الفنية والجمالية، وتفجر الأسئلة النقدية والفكرية الجوهرية.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي