رؤية التاريخ ووقائعه في رواية «الأدميرال لا يحب الشاي»

2023-03-02

خضير الزيدي

يحتمل النص الروائي في سرد تفاصيل التاريخ ما لا تحتمله الأجناس الأدبية الأخرى، فهو باب مفتوح على بيان وكشف وقائع حقيقية أو متخيلة، أو ما يجمع بين الاثنين بإضافات يجدها الكاتب ذات توجه (نفسي أو اجتماعي أو تلاعب لغرض سياسي) وبما أن التاريخ المعاصر يحتمل أكثر من قراءة وسرد جراء حوادثه، فقد لجأ نفر من الروائيين العراقيين إلى الاستفادة من كل ذلك، ويبدو أنهم وجدوا له تصنيفا يليق بأكثر من معيار. لكي يوثقوا من الأحداث والصراعات وينطلقوا من بناء نظام سردي تهيمن عليه هواجس العودة إلى الماضي، وطبعا تتحكم في بنائه أكثر من دلالة واتجاه يفترض أنها تتماهى في محاولاتهم تلك بنية سردية تميل لزمن دلالي وفيزيائي، وهذه العودة لبناء حوادث الماضي ووضعها في سياق سردي له فضائل متعددة، مثلما له سلبيات واضحة وهنا سيكون للروائي النصيب المعلن والسبب الرئيس في إخفاق أو نجاح ما تميل إليه بنية نصه من العودة إلى زمن وتاريخ معين، فما الذي سيعتمده الروائي في فصول روايته ليتحقق له النجاح؟ هل سيكون للمقدمة والاستهلال منظور معين لتقنيات في سرد الحكاية الخاصة به؟ وهل سيستفيد من تطبيقات آليات السرد الحديث بالاعتماد على صيغ ورؤية بنائية يتم تطبيقها وفقا لمباحث تاريخ النص وخطابه وما يخصصه الروائي من مستويات تترتب عليها فاعلية (الزمان/ واسترجاع الأحداث) ومن ثم سردها وبناؤها في ذلك النص، وهنا علينا أن نتذكر ما ذهب إليه رولان بارت من أن السرد (قول ينتمي إلى لغة نتوقع أن تصفها). أما يان مانفريد فيعرّف السرد بأنه (يعرض لنا قصة وأنها تتابع أحداثا تستلزم شخصيات، لذا فهو وسيلة اتصال تعرض وتتابع أحداثا تسببت فيها، أو جربتها الشخصيات) وهذا ما سنجده في رواية نزار عبد الستار الأخيرة «الأدميرال لا يحب الشاي» الصادرة عن دار الساقي.

نص الرواية

تعود حوادث هذه الرواية إلى زمن القرن الثامن عشر والتاسع عشر، تشهد صراعا إنسانيا وتجاريا، وتتخذ من أمكنة متنوعة جغرافيا فضاء لبعض حوادثها، لكن مدينة البصرة تبقى بؤرة مركزية تستدل عليها الصراعات وتنعكس فيها الصورة (الحقيقية والمتخيلة) من خضم الأزمات التجارية والتلاعب السلوكي، لأفراد غربيين أو عرب، وفي المقابل تشتمل على أساس مكاني وزماني مع رؤية تبناها نزار عبد الستار، بأن يضع القارئ عند تصورات فكرية يشير إليها بأصل الخلاف الاقتصادي، أو ما يترتب على استعمار الأمكنة واحتلالها، وبما أن التاريخ يومها (القرن الثامن عشر والتاسع عشر) يستدل على الدولة العثمانية والهند وبعض دول الغرب مثل، إنكلترا وهولندا، فالصراع الذي احتملت توظيفه الرواية هو صراع لم يكن من أجل التجارة فقط، إنما الغاية إيصال فكرة الاستحواذ وتجارة العبيد وارتكاب الأفعال اللاأخلاقية في شركات تلك المرحلة، فالغاية هنا من فكرة النص الروائي لم يكن إعلاء شأن الوصف المحايد إنما أراد الكاتب التذكير بخيبات المراحل التي عاشتها البصرة، والتي تمتد ليومنا هذا، وهو تمثيل تهيمن عليه لغة مبسطة أقرب إلى الوصف والتقرير منه إلى لغة سرد غامضة، أو تلجأ إلى بنية اللغة الشعرية، وهذا ما سيساعدنا كقراء أن نجد وصفا لطبيعة ونفسية أشخاص الرواية مثل العربي (عزيز لانكستر) وبراين ليس وويكهام كولنز، وليس انتهاء بحمزة الطويل في القامة والنحيل في الجسم، ولعل المرتكز المهم هنا مجاراة البناء الداخلي والنفسي للشخصيات في هذه الرواية، إذ عبّر نزار عبد الستار عن قدرة عالية في وصف الأبعاد النفسية لهم ومدى مستوى الفعل والسلوك الاجتماعي لكل فرد من أبطاله، وهو هنا يذكرني بما ذهب إليه عبد الملك مرتاض من (أن قدرة الشخصية على تقمص الأدوار المختلفة التي يحملها إياها الروائي يجعلها في وضع ممتاز إذ بواسطتها يمكن تعرية أي نقص، وإظهار أي عيب).

نزار عبد الستار

كان الأساس في بناء اللغة السردية توجيه الشخصيات بشكل مرتبط كما جاء في متن النص بأن الأحداث، أو (نسق الحدث) مرتب ومتآلف على منظور بنائي حقيقي، مع أن أي قارئ للنص الروائي بحمولاته التاريخية سيشك في الأحداث لو أراد إعادة قراءة تاريخ تلك المرحلة، أو على العكس سيلجأ إلى إيجاد وقائع متشابهة في المتن، مختلفة في الأسماء ومن الضروري أن نؤكد أن نسق الأحداث احتمل التتابع والبناء الحلقي، وقد نعيد لأذهان القارئ ما ذهب إليه عبد الله إبراهيم في تعريفه لبناء التتابع (تسرد الأحداث هنا بشكل خطي تاريخي لا تختلف عن تسلسلها في المتن الحكائي) والذي نود التأكيد عليه في متن النص الروائي لنزار عبد الستار أنه متطابق مع هذا التوصيف أعلاه، وبما أن المسافة بين الروائي والقارئ تكمن في (متن ما يسرد) فقد لجأ المؤلف إلى إعطاء وظيفة للسرد لم تعتمد على إغراق الأحداث بما لا تحتمل، فتبين لنا أن (الأدميرال لا يحب الشاي) بدت وفقا لمعيارية البناء المنتظم، سردا وتفصيلا ووقائع، واتخذت سياقا استمراريا في تكفل أدق التفاصيل لتحسب للرواية أنها (صورة لمرحلة تاريخ معين) تتطرق إلى وضع القارئ أمام علامات الانتباه للمكان ولحوادثه ولشخوصه، وما يخطط له اليوم من اللعبة الراهنة نفسها.

ما المختلف في بناء نزار عبد الستار

امتلك هذا القاص منذ زمن بعيد خطا في كتابة النص القصصي، ثم لجأ لعالم الرواية وكانت أدواته الفنية تميل إلى تحديث كتابة النص واختلافه، وغالبا ما يلزم قارئه بامتلاك ثقافة حية يفهم من خلالها كيفية التلاعب باللغة السردية والبحث عن صيغة المناورة بالحوادث وطرائق سردها، لكن في روايته الأخيرة لم يلجأ إلى هذا الأسلوب، كانت تجليات روايته منذ البدء تدخل قارئها بتصنيف تاريخي للحوادث التي تحتمل توظيفها الرواية ولزمنها الفيزيائي، فاللغة بسيطة وغير معقدة والشخوص ومتابعتهم وكشف هواجسهم النفسية مسيطر عليها، ضمن منظومة خاصة تبين قدرة نزار عبد الستار على الكتابة المختلفة والتنقل بين فترة وأخرى بأسلوب لا يحتمل وضع علامات مبهمة داخل نمط الكتابة الروائية، يأتي ذلك من خلال استثمار عناصر السرد والمهارة في صناعة نص مبسط للقارئ، ويحتمل في دلالته من خلال (الحوادث ) أكثر من تأويل وتمثيل بنائي لهذا تبدو خصوصية هذه الرواية أنها تمتلك خصائص فنية لها شروط صارمة، فهي لم تبالغ في التجريب ولم تنجر نحو الخطاب التقريري، بل حافظت على هويتها وحقائق ما تشكل فيها من فضاء مكاني وزماني، ومستويات في أنساق السرد، فبدت الرواية وكأنها فيلم تاريخي ينبهنا لجرائم المحتل واشتباك السياسة بلعبة التجارة ونزيف الدم وهول ما يلحق بالإنسان.

كاتب عراقي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي