من مغامرة الرحلة إلى مغامرة الكتابة عن المغامرة

2023-02-22

بوشعيب الساوري

يندرج كتاب «الامتداد الأزرق رحلة العبور» كما رواها العربي بابمار، الصادرة في طبعتها الثانية عن مطبعة الصفريوي في الصويرة 2022، للكاتب المغربي حسن الرموتي في إطار رحلة المغامرة، وهو نوع رحلي نادر في الكتابات الرّحلية العربية، التي كانت، في الغالب، محكومة بغايات وموجهات نفعية بعيدة كل البعد عن روح المغامرة؛ كالحجّ وطلب العلم وزيارة الأولياء والسفارة وغيرها، وإن حضرت فيها المغامرة فتكون ضمن الطوارئ والأخطار الطبيعية والبشرية المُحتملة، التي يمكن أن تعترض الرحالة كأهوال البحر وحرّ الصحراء وصقيع الثلوج ومهاجمة قُطّاع الطرق والأمراض والأوبئة.

تحضُر المغامرة في رحلة عبور من خلال مستويين:

أولاً؛ على مستوى الرحلة كتجربة، وقد تمثلت في إقدام رجلين وهما العربي بابمار ومحمد فوزي على عبور المحيط الأطلسي، في قارب صيد في غياب لأي ترخيص قانوني أو مواكبة أمنية وإعلامية؛

ثانياً؛ على مستوى تدوين الرحلة، إذ يقدِم كاتب غير مشارك فيها على تدوينها وهو حسن الرموتي، على الرغم من أن هذا ليس جديداً على الكتابة الرحلية المغربية، فقد سبق إليه ابن جزي في تدوينه لرحلة ابن بطوطة، لكن ما يجعل الكتابة مغامرة هنا هو المدة الزمنية الفاصلة بين التجربة والكتابة عنها، التي تمتد لأزيد من ثلاثين سنة.

وما دام فعل السفر قائم على المغامرة والأمر نفسه بالنسبة لتلفيظه، ارتأينا تناول هذا النص الرحلي هنا من زاويتين: مغامرة الرحلة ومغامرة الكتابة.

مغامرة الرحلة

لقد تضافرت مجموعة من المسوّغات دفعتنا إلى إدراج «الامتداد الأزرق رحلة العبور كما رواها العربي بابمار» ضمن رحلة المغامرة وهي:

1- كان الدافع إلى هذه الرحلة هو التحدّي والمغامرة، وذلك باعتراف العربي بامبار، واحد من الاثنين اللذين أقدما على مغامرة عبور المحيط الأطلسي في مئة يوم من ميناء الصويرة في المغرب إلى غويانا الفرنسية في أمريكا الجنوبية (وإن كان في نيتهما الوصول إلى أمريكا الشمالية) والذي يؤكد أن الرحلة كانت صادرة عن رغبة مجنونة: «أعترف أن ذلك لم يكن تهورا فقط، بل جنونا، جنون أقرب إلى الخيال، انتحار بكامل الإرادة». (الرحلة)

2- كما اعتبر بعض بحارة ميناء الصويرة، المشهود لهم بالكفاءة، أن فكرة الرحلة تعبّر عن تهور كبير، وأيضاً تؤكد الشهادات التي ذيّل بها حسن الرموتي الرحلة على روح المغامرة التي قادت إليها، والتي دفعت الكثير منهم إلى التشكيك في إمكانية نجاحها.

3- أيضاً الشعور بالندم الذي انتاب المغامرين (العربي بامبار ومحمد فوزي) أثناء عبورهما، تأكيداً منهما على وعيهما المتأخر بخطورة المغامرة التي أقدما عليها، وكان هذا الندم يتنامى كلما ابتعدا عن اليابسة، على الرغم من حماس البداية الذي تلاشى مع مرور أيام من الإبحار في عرض المحيط.

4- ما يجعل هذه الرحلة مغامرة هو أن صاحب الفكرة محمد فوزي لا علاقة له بالبحر، فأقدم على الرحلة ولو أنه ليس بحارا، ويدفع بحارا وهو العربي بامبار إلى خوض هذه المغامرة، والذي كان بدوره مستعدا للمغامرة. إذ استحسن الفكرة، وشجّع صاحبها على إمكانية تحققها، غير مبال بتحذيرات زملائه البحارة، بنسبة تسعين في المئة، فوافقه على الرحلة باندفاع، على الرغم من ارتباطه الأسري إذ كان أبا لمجموعة أطفال، ما يعني أن روح المغامرة كانت كامنة لديه، وكانت في حاجة إلى من يوقظها. والتحدي الذي رفعه العربي بامبار على نفسه هو ألاّ يظهر جباناً أمام رجل غير بحار. لقد توفرت لدى محمد فوزي في شهر أغسطس/آب عام 1988 رغبة مجنونة للإبحار نحو المجهول، ولتحقيقها انتقل من الدار البيضاء إلى الصويرة، وبحث عن بحار يكون رفيقاً له في المغامرة؛ فكان هذا الرفيق هو العربي بامبار، الذي انبرى لها. واستعدادا للرحلة المجنونة حرص محمد فوزي على صناعة زورق متين خاص بالرحلة، قادر على تحمّل أمواج البحر وأهواله، كما قام بتمويل الرحلة كما كان متوقعاً على مستوى التزود بالغذاء.

قد تدعو هذه الرحلة التي تمّت بواسطة قارب صيد الكثير من الشكوك حول صحتها. ولرفع هذا اللبس يذكّر محرّر الرحلة حسن الرموتي بوجود رحلات سابقة مماثلة لها قام بها أوروبيون ومغاربة، تثبت إمكانية الرحلة وتحققها الفعلي. كرحلة ألان بومبارد سنة 1952 ورحلة طور هيوزدل سنة 1952. وما الاهتمام الإعلامي مسموعاً (إذاعة طنجة) ومكتوبا (الجرائد الوطنية) ومرئيا (قنوات أجنبية)، على الرغم من قلّته، لدليل على تحققها.

وكان من عوامل نجاح هذه المغامرة وخروجها من رغبة إلى حيز الواقع هو تحمّس محمد فوزي صاحب الفكرة ومموّل الرحلة، بالإضافة إلى اعتماده على بحار محترف هو العربي بابمار. كما أن الرحلة تمت في سرية تامة خوفاً من إفشالها، فانطلقت في يوم عطلة بمناسبة عيد من الأعياد الوطنية في المغرب، تأكيداً على روح المغامرة، وأهمية الزورق ونوعيته وقدرته على إنجاح الرحلة، كما أن الأحوال الجوية كانت مساعدة خصوصاً في فصل الصيف، إذ لم تكن هناك رياح وأمواج عاتية كبيرة قد تقلب الزورق.

هكذا لاحظنا أن «الامتداد الأزرق رحلة العبور كما رواها العربي بابمار» تندرج ضمن رحلة المغامرة، بفعْل المخاطرة التي أقدم عليها بطلاها وهي عبور المحيط الأطلسي في قارب صيد. ولم يتوقّف الأمْر هنا، بل تعدّاه إلى مسألة كتابتها من كاتب غير مشارك فيها، بالإضافة إلى المدة الزمنية الطويلة التي تفصل تحققها في الواقع عن كتابتها.

مغامرة الكتابة

يؤكد حسن الرموتي أن هذه المغامرة الفريدة، على الرغم من أهميتها وفرادتها، لم تلق الاهتمام الذي يليق بها، وما الطريقة البائسة التي عُومل بها العربي بابمار من قِبَل أجهزة الأمن (الاعتقال أثناء العودة في مطار محمد الخامس بتُهمة الهجرة السرية) لَدليل على سوء التعاطي مع هذه التجربة المتميزة، التي يستحق صاحباها التنويه ورد الاعتبار بدل أن يعيشا على الهامش. وهذا واحد من العوامل الذي حفّزت حسن الرموتي على كتابة هذه الرحلة وإنقاذها من النسيان. مؤكدا أن الصدفة كانت الدافع الأول لكتابة هذه الرحلة، إذ التقى الكاتب صدفة مع الفاعل الثقافي حسن هموش الذي التمس فيه القدرة على كتابتها، بحكم كونه قاصاً وروائياً، فاقترح عليه كتابتها وحفّزه على ذلك، والذي شجع الكاتب هو حرصه على تراث المدينة وإنقاذه من الضياع والنسيان. وقد جمع الكاتب في تحريره لهذه الرحلة بين رواية العربي بامبار وقراءاته وبحثه، عبر تحفيز ذاكرة العربي وإشعالها للتغلب على عائق النسيان (انطلاقاً من جلسات مع العربي رغم خجله الذي انضاف إلى العوائق الأخرى). وهو ما جعل الكتابة بدورها تحدياً، نظراً لما يعْترض الذاكرة من آفات النسيان، كما تسجّل المغامرة أيضاً من كاتب غير مشارك في التجربة، عبْر رواية أخرى، وذلك بخلْق لغة أدبية وسْطى قادرة على تشخيص المغامرة والنفاذ إلى مشاعر الرحالة وإحيائها بعد مدة طويلة من وقوعها، وهو ما جعل النسيان عائقاً كبيراً أمام كتابة الرحلة، وقد اعترف العربي بابمار بالنسيان، وأن الرحلة أضحت مجرد ذكرى، وأن إصرار الكاتب هو الذي أحياها في ذاكرته. وينضاف إلى صعوبة أخرى وهي الاكتفاء برواية واحدة بسبب عدم العثور على المغامر الثاني محمد فوزي.

وللتغلب على صعوبة النسيان يُؤْمِن الكاتب بأن التّجارب الخارقة والمميزة لا تنسى أهم تفاصيلها، مهما طال الزمن وتظل آثارها والتفاعل معها بالجذوة نفسها، على الرغم من طول المدة الفاصلة تظل التجربة مشتعلة في ذهن الرحالة ولا ينساها. لا شك في أن كتابة هذا النص، حفزت ذاكرة العربي بابمار على تذكّر بعض التفاصيل التي يمكن أن تضاف إلى الطبعات المقبلة للرحلة، هذا ما نتمناه بالإضافة إلى إدراج قصاصات من الجرائد التي تحدّثت عن الرحلة، وأيضاً بعض الصور إن تم العثور عليها.

هكذا يتحقّق فعل المغامرة في رحلة عبور عبْر مستويين؛ الأول يخص إنجاز الرحلة كفعل والثاني يخصّ كتابتها. فتحقّق محكي الرحلة ليس نتيجة لحياة مغامرة، وإنما نتيجة أيضاً لمغامرة فنية أقدم عليها الكاتب حسن الرموتي.

كاتب مغربي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي