
محمد تحريشي
تشكّل رواية «العظماء» للروائي ياسمينة خضرا نقلةً نوعية في مسار الكتابة لديه وتحولا فنيا مميزا، سعى من وراء ذلك إلى إثبات الذات الكاتبة، من خلال اختيار موضوع الرواية والتقنيات الموظفة فيها، ومن خلال أفق الكتابة الذي كان يرمي إلى كتابة نص مرجع يحيل إلى الكاتب نفسه عبر القيم الجمالية التي ترصدها الرواية، والرغبة في تجاوز النصوص السابقة، التي ترسخت في ذهن القارئ بما سميته، من خلال ما كتبتُ عن روايات هذا الكاتب؛ النصوص الصراع، أو الكتابة عن الصراع من منظور فني، الصراع في كل تجلياته السياسية والاجتماعية والأيديولوجية والنفسية والعقائدية.
رواية «العظماء» جاءت لتنصف أولئك الجنود الجزائريين الذي شاركوا غصبا عنهم مع الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى دفاعا عن فرنسا، وكشفت هذه الرواية عن هول المعاناة وحجم الكارثة التي عاشها هؤلاء الجنود. رواية هي في الأساس محاكمة لفرنسا وللمتعاونين معها من قياد (القايد: موظف حكومي مسلم يجمع بين وظائف القاضي والإداري ورئيس الشرطة) متمثلة في القايد إبراهيم، الذي قام بدور جوهري في حركية الأحداث والشخصيات بكل مظاهر المكر والخداع والاستغلال والأنانية والنرجسية، لا يهمه إلاّ المجد ولو كان على حساب الضعفاء والمساكين والمقهورين والمغلوب على أمرهم. ما أبشع الإقطاعي وما أشنع أعماله.
قارئ هذه الرواية يقف على سؤال مهم، فمن أين تستمد هذه الرواية عظمتها؟ هل من الموضوع وطريقة تناوله فنيا؟ أو من خلال القيم الجمالية التي ركزت عليها وكيفية معالجتها؟ إن عنوان «العظماء» كان دالا على قدرة الكاتب على تسريد الحربي من خلال رحلة في الزمان وفي المكان؟ ومن خلال الاهتمام بالكثير من الجزئيات وتكثيفها تكثيفا فنيا يعتمد على الاقتصاد اللغوي؟ قد تجعل القارئ متابعا الرحلة بشغف وتشويق وإعجاب. ولعل الرواية تستمد العظمة من إنسانية حكاية ياسين مع المعاناة ومواقفه وبطولته وطيبته وحتى عفويته التي قد يراها غيره سذاجة. استحضرتُ رواية «محمد النحيف» لكمال يشكر التركي، وأنا أتتبع فصول هذه الرواية، وكما جعلتني هذه الرواية أمقت الإقطاعي، فإن رواية «العظماء» جعلت الشعور نفسه يراودني في مقت القايد إبراهيم، وكيف استغل ياسين شراقة، ليذهب مكان ابنه للمشاركة في الحرب باسم حمزة بو سعيد؛ لينال هو وابنه المجد والاعتراف من فرنسا، ويكون نصيب ياسين الشقاء والتعاسة في كل أصنافها، وكأنه كُتب عليه أن يكون شقياً، ليس بإرادته وإنما بسبب تدخل عدة أطراف خارجية، وفي الغالب تكون هي المستفيدة من شقائه وتعاسته.
إن رواية «العظماء» رحلة في الزمان وفي المكان، تبدأ أحداثها من ريف مدينة تيارت في منطقة فرندة، ومن ثم الرحلة إلى مستغانم، ومنها عبر رحلة بحرية إلى فرنسا للمشاركة في الحرب العالمية الأولى، وبعد انتهاء الحرب، تنطلق رحلة العودة إلى فرندة، ومن هناك تكون المعاناة الحقيقية غير المنتظرة، ثم الانتقال إلى مدينة سيدي بلعباس فوهران، ومنها إلى منطقة السهوب الغربية نواحي الخيثر والمشرية، ومنها إلى القنادسة، هذه المدينة العجيبة والغريبة والساحرة. وعبر مجموعة من الأحداث والوقائع، ومن خلال تقاطع الشخصيات يرصد لنا الروائي ياسمينة خضرا واقعا مراً وأليماً، يعتصر المعاناة كؤوسا من الحزن والغيظ والفقد والوجد والحنين والشوق، والحب والكراهية والفرح والحزن والغنى والفقر والعوز والعطاء والمنع والأخذ والغصب والمنح. مجموعة من الأهواء المتناقضة والمتضاربة تضارب المصالح من جهة، والمتآلفة والمتحابة والمتوادة من جهة أخرى.
رواية «العظماء» حكاية شاب طيب وعفوي مسالم لا يعرف الخبث والخداع، فيستغله القايد إبراهيم ليذهب عوض ابنه للمشاركة في الحرب، فيغريه بالأماني ويغويه بالأمنيات ويعده بالمجد والمال والجاه والأراضي حين عودته، فينخدع الشاب ياسين شراقة بهذا الكلام المعسول وتنطلي عليه اللعبة، يقبل أن يقوم بهذا الدور ليعيش ويلات الحرب ومأساتها، وينجو من الموت فيعود إلى حيث الوعود فيسرق منه هذا القايد كل شيء جميل، محاولا سلب حتى الحياة منه، ولولا قدرة قادر لما نجى من الموت المحتوم، فتكبر المأساة وتعظم جراحها. مكتوب عليه أن يقدم ضريبة عن الآخرين وعن مكاسبهم دون مقابل.
اعتمد الروائي على التفصيل في أحداث الرواية على امتداد فصولها، واعتمد على التكثيف أيضا من ذلك: «سخطني هذا الغضب العاجز الذي لا يمكن استحضاره والذي يلتهمك من الداخل. أردت أن أتحمل سوء حظي بدلاً من المعاناة من الظلم، أن أكون مجرد خربشة مثيرة للشفقة. ما المعنى الذي يمكن أن أعطي لإحباطاتي؟ هل لديهم واحد؟ ما كان يحدث لي في السلسلة كان سخيفًا لدرجة أنني لم أعد أعرف ما إذا كان عليّ أن أضحك أم أبكي. ظللت أدفع للآخرين. لقد خضتُ حربا لم يتم استدعائي إليها للدفاع عن شرف شخص عاقٍ لم يفكر إلا في اختفائي؛ كنت مطلوباً من قبل الشرطة لأنني دافعت عن نزاهة امرأة أساءت إلى حبي لها، والآن سوف أعدم دون محاكمة بسبب حماية ممتلكاتي التي لم تكن ملكي».
تنحني الرواية بكل فخر واعتزاز أمام عظمة ما قدم هؤلاء المجندون من تضحيات أثناء مشاركتهم في هذه الحرب، وهي بذلك تحارب النسيان والتناسي والنكران والتجاهل والتهميش، رواية تنعش الذاكرة وتحيّن الواقع وتحاسب الماضي وتنبه المستقبل لنيل شهادة اعتراف فنية من كل مَنْ له علاقة بتجنيدهم عنوةً في هذه الحرب، من أجل شرف لم ينالوه ومجد منعوا منه ومن اعتراف بالجميل، بل أكثر من ذلك عانوا من الحرمان والنكران، في حين نال غيرهم الشرف والمجد والاعتراف والذكر في كل المناسبات».. أقول، بحنجرتي المشدودة، هل تعتقد أنهم سوف يتذكروننا؟
ـ بعضهم، بلا شك، وبعضهم الآخر لا، وسيكون هؤلاء كثيرون.
ـ قاتلنا بالشجاعة نفسها، جنود مشاة، الزواف، السنغاليون، الحلفاء، الفرنسيون، الهنود، كلهم مثل الإخوة، من أجل الشرف والحرية.
ـ الكل يعرف ذلك يا حمزة.
ـ فلماذا لا يتذكرنا الآخرون؟
– لأنه هكذا. إذا كنا متساوين في الاستشهاد، فلن يذكر التاريخ إلاّ الأبطال الذين يناسبونه .
كاتب جزائري