
حسن داوود
يتّسع المدى الزمني لرواية «إفرح يا قلبي» إلى ما يفيض عن الحياة الكاملة لغسّان، شخصيتها الرئيسية. هناك آخرون حظوا بوجود ظلوا حاضرين فيه، بين هؤلاء أفراد عائلته، أبوه وأمه، ومن قبلهما جدّه وجدّته، وأخوته الكثيرون. كما هناك الآخرون، أو الأخريات، نساء غسّان اللواتي لم تكن العلاقة بكلّ منهن طارئة أو عابرة. «نور»، وكانت حبّه الأول، لازمته ذكراها حتى صفحات الرواية الأخيرة. وهناك «سابين» التي عرفها أثناء دراسته الموسيقى في ألمانيا وظلّ طيفها حاضرا هي أيضا في ما تبقى من حياته. أما زوجتاه «كيرستين» و»رلى» فتمثّلتا في نزاعه بين انتمائين راحا يتصارعان في داخله، الثانية مثّلت له مجتمعه الشرقي الأول، اللبناني، أو القروي على الأصح، بعد أن تزوّجها خفية عن الأولى، وكيرستين زوجته الأمريكية، فعاش منقسما بينهما: رلى تردّه إلى منبته الأول وكيرستين تحمله إلى أمريكيته التي اكتسبها وتحققت بها نجاحاته في عمله في الموسيقى.
هكذا تتنقّل الرواية بين المكانين، أو العالمين، ذاهبة في أثناء ذلك إلى كلّ الوقائع والمشاعر والأفكار المتصلة بهما. أما ماضيه العائلي فلا يخفت حضوره أبدا، أقصد متابعته حياة أبيه وأمّه إلى ما بعد الفترة الزمنية التي اختصت بهما من الرواية، وهي فترة عيشه في المنزل مع أهله وبين أخوته. ظلّ أبوه، العسكري القاسي والعنيف في علاقته بزوجته، ماثلا في وعي غسان. ذاك الأب لم يكن يمعن في ضرب زوجته، في حضور أولاده، وتعذيبها، بل إنه اتخذ من جارته جيهان عشيقة علنيّة تكاد إقامتها في بيته أن تكون كاملة. الأب هذا ظلّ وجوده متنازَعا في وعي غسان، شأن توزّعه بين عالمي زوجتيه، كما شأن التوزّعات الأخرى حول كل شيء. هكذا لا تتوقّف الرواية عن وضع مصادفات الحياة ووقائعها، في ما يشبه الثنائيات المتضادة والمتصارعة.
ذلك التنازع يطال الأخوة أيضا، الكثيرين، حيث تعيدنا كثرتهم هذه إلى أن نعود صفحات إلى الوراء كي نعرف، من بين الأخوة، مَن هو، أي الأخوة هو محمود الذي أرغمه أبوه على الزواج من معشوقته جيهان، ربما من أجل أن يبقيها الأب قريبة منه وفي متناوله. هناك جمال أيضا، أكبر الأخوة لكن الأقصر حياة بينهم بسبب مصرعه برصاص أخيه عفيف الذي انضم مبكرا إلى أحد التيارات المسلّحة.
وهناك أيضا سليم المحبّ للرقص والمشتبَه في قلّة الرجولة فيه، الذي في مرحلة تلت من حياته، اشتبه هو نفسه في جنسه. وهناك طارق، المحبّ للتصوير، وقد امتهنه لاحقا ليغطّي، في فترة لاحقة من عمله، حروب المنطقة حتى أنهكته وقرّر العيش في فرنسا مبتعدا عن بلده ومهنته. طارق إذن حسم أمره في العيش خارج بلاد الحروب التي صار يكرهها وبذلك يكون، هو أيضا، قد ترك أخوته الآخرين في تعفّن الحياة داخل بلدانهم. وحده غسان من بينهم ظلّ متردّدا بين حضارتين، فمرّةً يكره ما عاشه هنا في قريته ساحبا ذلك على علاقته بالموسيقى، من ذلك مثلا أنه قرر، وهو هناك في أمريكا، أن يتوقّف عن العزف على الآلات الشرقية، كموقف عام من كراهيته للشرق، وفي فترة لاحقة يعود عما كان قد قرّره، ودائما من ضمن مشاعر وأفكار تتعلّق بخيبته مما صارت إليه تلك البلاد.
لكن الموسيقى عند غسّان تتعدّى كونها مهنة، حيث إن الرواية أجرت تركيزا ظلّ مستمرا على موهبته الفائقة فيها، جاعلة تعلّقه بها بمثابة تكوين خَلْقي فيه. كان قد تعلّم حفظ كل الأشياء من رنّتها في أذنه، لا من مرآها أو من ملمسها: «أصبح العالم بالنسبة إليه رنّات، يسمعها مع كل مشهد يراه». وما تردّده إزاء نوع من أنواعها إلا لكونها الانتماء الأكثر تأصّلا في شخصه. غسّان ذاك عاش كل ما يدفع إلى التفكير المتناقض المتساجل في حياته، بين أن يكون هنا وهناك، وأن يناقش، بينه وبين نفسه، مسائل مثل الدين والحرب، والعشق والخيانة، والحلال والحرام. ومع تمدّد الرواية إلى ما يتعدّى زمنها البنائي لتصل إلى مظاهرات 17 تشرين وانفجار المرفأ، وهذا ما كان ممكنا التوقّف قبله، بدت الكاتبة مصرّة على ألاّ يفوت حياة بطلها شيء. هي رواية متسعة إذن، زمانا ومكانا ووقائع وأحداثا. وهي رواية مسائلة لكل ما تعبر فيه وتضمّه إلى مجالها السردي، أعني أنها مواجِهة ومساجِلة للمسلّمات على اختلافها. كما هي ساعية إلى إزاحة الأشياء عن مواضعها، بالتردّد، أو بالانقلاب على الوعي السابق، أو بتصوير ما هو شاذ وإجرائه من دون ما يستحق من العجب والاستنكار (أقصد هنا علاقة الأخ محمود بزوجته، عشيقة أبيه)، كما على المفارقة، كمثل ما قال طارق حين لمع ضوء الكاميرا في وجهه وهو صغير «ولما لمعت الكاميرا في وجهه أخفاه بيديه وصرخ قائلا: تخيلت يا إمي، سرقولي وجهي، خطفولي وجهي، وهذه عن طارق الذي افتتن بالتصوير قبل أن يكرهه بعد ذلك ويتحول عنه.
رواية علوية صبح «إفرح يا قلبي» صدرت عن «دار الآداب» في 351 صفحة لسنة 2022.
كاتب لبناني