
بوشعيب الساوري
نظراً لطبيعته المفتوحة والمرنة يتميز النص الرحلي بقدرته على استيعاب العديد من الأشكال والأنماط والأساليب التي تسمح له دوماً بتجديد نفسه، فيتأثر بسُهولة ويتَغير تبَعاً للتأثيرات التاريخية والسياسية والأيديولوجية والثقافية والأدبية التي تلقي ظلالها على المؤلفين في فترات زمنية معينة، بل يتغير بِحَسب فئات الرحالين، وكذا بالدوافع التي كانت وراء أسفارهم، وبالأهداف من تحويل أسفارهم إلى نصوص، وبطبيعة وِجهات أسفارهم، وأخيراً بطبيعة العلاقات التي يُقيمها المؤلفون مع الأماكن التي جابوها، كما هي حال الكاتب العُماني أحمد بن ناصر، في مُقدمة نصه الرحلي الموسوم بـ«أتلانتيس بحر العرب تدوينات من الرحلة إلى جزيرة مصيرة» (وهو الإصدار الخامس والخمسون من سلسلة كتاب مجلة نزوى العمانية يوليو/تموز2022) الأمر الذي يمنح النصوص الرحلية دوماً جدة وتنويعاً متواصلين في الأشكال.
في تلفيظه لتجربَة سفَره يُعلن الكاتب أحمد بن ناصر، في مُقدمة نصه الرحلي عن مجموعة من السمات المميزة للكتابة الرحلية في كتابه هذا، والتي يبدو لي أنها تعبر بجلاء عن توفر الكاتب على وعي وتبصر كبيرين بفعل الكتابة الرحلية الذي يجعل منه اختياراً واضح المعالم في تحويل فعل السفر إلى نص رحلي يكشف عن مقوماته وأسسه التي تطالع قارئ هذا الكتاب منذ الوهلة الأولى، بل تتواصل على طول صفحات النص التي تكسر أفُق انتظاره، خصُوصاً أن الكاتب يُراهن على جعل السفر وتلفيظه مجالاً للتأمل في التجربتين معاً: تجربة السفر وتجربة تلفِيظها، وهما التجربتان اللتان لا تنفصلان لدى الكاتب، لأنهما وجهان لعملة واحدة.
أولاً: يكشف الكاتب منذ الصفحات الأولى لكتابه عن طبيعة نصه الرحلي، حين يؤكد أن نصه هذا ليس وليد رحلة واحدة، كما تُوحي بذلك كلمة «الرحلة» في عنوانه الفرعي «تدوينات من الرحلة إلى جزيرة مصيرة» وإنما هو ناتج عن رحلات عديدة متباعدة في الزمان ومختلفة التجارب، قام بها الكاتب إلى جزيرة مصيرة العُمانية؛ إذ يشدد في مقدمة نصه الرحلي هذا أنه عمِل على كتابتها بعد عدة رحلات، أي أنه قام بصهر وتركيب وجداني لمجموعة من أسفاره إلى المكان نفسه في نص رحلي واحد، قوامه التقاط ذلك الاندهاش المتواصل الذي ظلت تمارسه الجزيرة كمكان غير عادي على الكاتب، والسعي ما أمكن إلى نقله للمتلقي، انسجاماً مع مقولة السفر فعل لا ينتهي، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بمكان سكن وجدان الكاتب مثل جزيرة مصيرة، فرحلة واحدة إليها وفيها لا تكفي، ونص واحد لا يكفي، بل يقتضي الأمر إفراغها في نص مضعف، يحتوي نصوصاً عديدة تحاول استيعاب ذلك الافتتان المتواصل.
ثانياً: يشدد الكاتب على أن نصه الرحلي هذا مختلف تماماً عن غيره من الرحلات، من خلال رهانه على الانتصار للذاتي على حساب المعرفي، انطلاقاً من تصور يبني عليه الكاتب نظرته لفعل الكتابة الرحلية، ألا وهو الرحلة وكتابتها فعل نفسي في المقام الأول قبل أن يكون فعلاً جسديا، عبر التقاط الحالات النفسية التي تعتري الكاتب كلما حل بالمكان، والتي تسكنه وتسيطر على وجدانه قبل وبعد زيارته، رافضاً البدايات التقليدية المتوقعة المتمثلة في التعريف بجغرافيا الجزيرة، وبالتالي يرفُض أن يكون نصه دليلاً مكشوفاً كاملاً مفصلاً عن جزيرة مصيرة، في مقابل ذلك يكشف عن علاقاته بالمكان وشعوره بالوجود في الجزيرة، انطلاقاً من الكشف عن وقع بعض الأماكن في وجدانه التي تكشف كيف تتولد علاقة حب بين الإنسان والأماكن، بهدف تشجيع القارئ على زيارتها، عبر تقاسم تجربة علاقته مع جزيرة مصيرة، عبر كتابة تنهج التشويق لا التثقيف.
ثالثاً: هي رحلة قوامها ما يخطه القلم، انطلاقاً مما بقي عالقاً في ذاكرة الكاتب من بقايا أسفاره العديدة إلى جزيرة مصيرة التي وقع في سحر جمالها الفاتن المحرض على تعلق الكاتب بالمكان، الذي يعبر عنه توالي أسفاره إليه مع مرور السنين منذ سنة 2003، عبر التركيز على الأحداث الاستثنائية اللافتة التي عاشها الكاتب أو وقف عليها هناك، لينقلها من وجدانه إلى كتابة محرضها ودافعها ذكريات تأبى أن تُمحى، نظراً لما تتميز به تجربة السفر هذه في نظر الكاتب، من فرادة تعدمها أسفاره إلى أماكن أخرى، بل يتعلق الأمر برحلة لا تنتهي بعودة، كما هي الحال لدى الكثير من الكُتاب، بل هي رحلة متواصلة في الوجدان، رحلة سرمدية في الخيال والذاكرة، قبل أن تكون رحلة في الواقع بتعبير الكاتب، رحلة طريق لا متناه، وباختصار هي رحلة الوجدان لا رحلة الجسد.
رابعاً: حرص الكاتب على الابتعاد عن سلوكات السائح، الذي في الغالب ما يعلَق بقشور الأشياء، في ما يخص معالم المكان وكائناته وأحداثه وطبيعته وخصوصياته التي لا يمكن أن تتأتى بسهولة، بل تتطلب من الرحالة الكثير من الصبر والروية والتأني، قد يصيب أحياناً في التقاطها وقد تخيب مساعيه، كما يعترف بذلك الكاتب أحياناً أخرى، ويكتفي السائح بتكرار ما جمعه من هنا ومن هناك من تمثلات وصور جاهزة عن الأماكن تفقد المكان جاذبيته وعذريته، وتكون في الغالب سابقة على فعل السفر، وتحول دون نفاذ الكاتب إلى أعماقها. لذلك استنفر أحمد بن ناصر كل حواسه ومشاعره للتفاعل مع الأماكن وما فيها من نباتات («البابونج» «الزموتة» «العتر» «المسكيت») وحيوانات (أرانب، العناكب، النوارس، عقاب البحر، طيور النسر المصري) ومعالم طبيعية (بحر، وديان،) وبشرية (منار، سكة قطار، حصن،) وما شهدته من أحداث تاريخية (حطام سفينة بارون أنريدل البريطانية سنة 1904) محاولة منه الوقوف على الأيقونات والمعالم المميزة للجزيرة (كسيارات اللاندروفر) ورغبة من الكاتب في تقديم تجربة رحلية جديدة على مستوى فعل السفر وتلفيظه.
خامساً: تطلبت الكتابة الوجدانية لهذا النص الرحلي من كاتبه استنفار مقروئه من نصوص أدبية وفكرية كونية («حي بن يقظان» «ملحمة جلجامش» «إلى المنارة» لفيرجينا وولف، «قهوة نامة» لعبد الله ناصر، «الرموز في الفن والأديان والحياة» لفيليب سيرنج، «ثلاثية بحر العرب» ليونس الأخزمي، «موشكا» لمحمد الشحري، رواية «على نهر بييدرا هناك جلست فبكيت» لباولو كويلو، رواية «موبي ديك» للكاتب الأمريكي هيرمان ملفل، رواية «الكونت دي مونت كريستو» لألكسندر ديما «قصيدة الغريق» لوليم كوبر… ولافتة من لافتات أحمد مطر) وما علق بذاكرته من أقوال مأثورة لابن عربي وغيره، وما شاهده من أفلام وسلسلات كرتونية («كاست واي» «حياة باي» «حكاية صورية» «توم وجيري» السندباد البحري) قبل وبعد فعل السفر، عبر تذكر وضعيات مشابهة عاشتها شخصياتها للتأكيد على البعد الكوني للتجربة التي يعيشها الرحالة ويسعى إلى تقاسُمها مع القارئ، إذ يجعل رصيده القرائي والبصري، بشكل خاص ومعرفتُه واطلاعه بشكل عام، مدخلاً لقراءة معالم الجزيرة وكائناتها وأحداثها.
سادساً: تأكيداً منه على مقولة «ليس من رأى كمن سمع» التي يرددها الكثير من الرحالة على مرّ العصور، ليبعدوا عن أنفسهم شبهة الكذب التي عادة ما تلصق بالرحالين من جهة، ومن جهة أخرى حرصاً منهم على أولوية المعاش على المروي أو أولوية براديغم العَيان على براديغم السماع، يسعى الكاتب مثل جملة من مؤلفي النصوص الرحلية جاهداً إلى تجاوز وتكسير الكثير من الصور النمطية والتمثلات الخاطئة، التي يكونها الناس عبر السماع أحياناً وعبر المخيلة أحياناً أخرى، بما فيها تمثلاته هو نفسه، عن أماكن وأشخاص البلدان الأخرى البعيدة أو القريبة، والأمر نفسه ينطبق على جزيرة مصيرة، وبالتالي ففعل تلفيظ السفر لدى أحمد بن ناصر، يعمَل جاهداً على تهديم الكثير من الصور النمطية التي تسبقه وتتسرب للأسف في كثير من الأحيان إلى تحويل السفر إلى نص رحلي، بإعطاء أولوية للمرئي والمُعاش على المسموع، وتكون عائقاً أمام تفاعل الرحالة مع المكان دون مُسبقات.
سابعاً: على الرغم من تأكيد الكاتب على ابتعاد نصه الرحلي عن الرهان التثقيفي وجنوحه إلى الخيالي، فإنه يجعل من نصه، بطريقة ما نوعاً من إعادة كتابة تاريخ جزيرة مصيرة العُمانية، فقط انطلاقاً مما بقي عالقاً من آثار إنسانية في الجزيرة شاهدة على ما عرفته من أحداث عظيمة، يُعيد الرحالة تشييدها، انطلاقاً من تلك العلاقة الوجدانية التي صارت تربطه بالجزيرة، أولاً عبر تصحيح ما تراكم حولها من أخطاء وثانياً عبر إغناء الآثار المُشاهدة برصيده القرائي، لأن الرحلة بالنسبة للكاتب اكتشاف يتحقق عبر المزاوجة بين ما تفصح عنه مشاهداته في الأماكن التي جابها وتفاعله الوجداني معها من جهة، وما تُتيحه رحلة البحث في الكتب والشبكة العنكبوتية من جهة أخرى. ليؤكد الكاتب أن فعل السفر بحث يسكن وجدان الرحالة حتى بعد عودته إلى بيته ويستمر فيه ومعه إلى غاية تحويله إلى نص رحلي.
كاتب مغربي