ذاتَ يومٍ سُتُخْبِرُنا اللَّيالي مَن نكون

2023-02-05

ماريو دي روزا

مُتْعةٌ خالِصة

تُنْصِتُ الشُّجيراتُ إلى صوْتِ الرّيح

وهي تَمدُّ أذرعها المرْهفة المورِقة.

يا لها منْ مُتعة خالِصة تلْكَ اللَّحظة

تَمْنحُها الشَّمسُ الّتي تغْدق الأشْياء بالضّياء

وتمْلأ الهواء بالدِّفء، وتُذيبُ القَلب،

وتزورُ، بانْدفاع، كلّ إنّسانٍ على انْفراد.

ويرْتفِعُ صوْتُ الحُوريّةُ بالغِناء

فيُفجِّرُ الحبَّ في الصُّدور القاسية.

والزّمنُ الأبديُّ في الظِّلِّ يغْفو،

ما بيْنَ النباتاتِ الغضّة المبلّلة

بندى الأرض. وثمّةَ عجوز

تنْشرُ الغَسيلَ الرَّطبَ

في صَمْتِ السِّنين الّتي انْقَضتْ

وصَدرُها ينتَفِخُ بالطَّمأنينةِ والبَشاشة.

وكانتِ حشراتُ الزّيز الخضْراء صامتةً

في نعيمٍ ما بيْن الأغصان.

وأنا في صمتي، أقرأ، تارةً أُراقِبُ

وأحيانًا أغفو، في دَهشةٍ وحبور.

ويهدَأ فيَّ كلُّ شريانٍ، وكلُّ عضلةٍ وعَصب

في هدْأةٍ، كأنّها الموْت...

ولمْ يكنْ موتًا، لكنّهُ خمولٌ عذب،

لحظةٌ فريدَةٌ عبثيَّةٌ، ثمينةٌ في ذاتِها.

ويا لها من نُدْرةٍ، عصيّةٌ عليْنا

لذا فها أنا في خمولي

مثْل أبيقوريٍّ حكيمٍ في تفكُّرِه.

■■■

ذاتَ يومٍ ستُخْبِرُنا اللَّيالي

الفَجْرُ قارِسٌ وها هو الصَّباح في إقْبال

وأنْت على الشّاطئ، فوق الصُّخور

المَكسوَّة بالرَّمل، تنتَظِر النُّجوم،

أنا أقِفُ مُكْتئبًا على السّاحِلِ أنظُرُ

ثُقوبًا سوداءَ في الماء،

ما بيْن قناديل بحرٍ لؤلؤيّةٍ

تنتَفِخُ في الضّياء الشَّفيف،

وبيْنَ قِطعِ زُجاجٍ في الرَّمل.

ذات يَومٍ

ذاتَ يومٍ سُتُخْبِرُنا اللَّيالي

منْ نَكون.

■■■

أَخيرًا يَنزِلُ المَطر

هبّتْ أخيرًا ريحٌ خَفيفَةٌ

فوْقَ تلْكَ البِركةِ الرَّماديَّة

ولاحَ بريقُ أملٍ منْ خللِ اللَّظى

ذلك السِّجنُ القاهِر الّذي كُنتُ فيه.

وداعًا أيَّتها الأيّام ذات البَريق القاتِم!

لمْ تَبْقَ سوى الذِّكرى منْ ذلك اللَّظى الجَارِف

الّذي أجْهدنا في السَّاعاتِ القاتلة

في ذلكَ الصَّيْف الشَّديد الحارِق.

من ذلكَ الزّمَنِ الملوَّثِ الّذي عِشْناه

بريحِهِ المضْطرِبةِ أبدًا

ومِياههِ الّتي لمْ تَكنْ قطُّ نقيَّة

لمْ تبْقَ غيْر ساعَتِهِ الأخيرة...

وها هو الرَّعْدُ المُبارك

الّذي انتظرناه بِقلقٍ واشْتهاء،

يهجمُ دويُّه في كبد السّماء

وصوْتُهُ العنيف

به يحْتفي النّاس بالصُّراخِ والأهازيج.

ثمَّ ترى البَريق في تلْكَ العيونِ يبدأ بالخُمود

فتحْسبُ أنَّ لحظةَ السّلامِ قدْ ولّتْ

لكنّني أحسَسْتُ أنَّ شيئًا ما تغيَّر

وإنْ كانَ فقطْ في اختفاء الشَّمس ...

وتحرَّكتْ تلك الحُشودُ المُجْهدة

وهي في انْتِظارها الصّامت ...

وفجْأةً تسقُطُ قطْرةٌ صغيرة، في ذلكَ الجوّ الخانِق

وبعدها، أخيرًا، ينْزِلُ المَطر.

■■■

أغطية

في أوْديةِ اللَّيالي المُنيرة

في الصَّيفِ وفي الشِّتاء

إلى الآن أسْتشعِرُ حُضورًا صارِخًا:

حُضوركَ يا أبي

لمْ يهْجرْني قطّ.

وفي طُرقات الحَياة،

ما بيْنَ تدفُّقات الحاضِر الّتي لا شَكْل لها،

في الخَطيئة وفي الصَّواب

أجدُ صورَتكَ أمامي

وأنا أضعُ قدمي على خُطاك.

وفي الأثْناء، تُهدْهدُني ذكراك النّاصِعة

ونَظْرتُكَ صوْبَ الأُفقِ الأبديِّ تواسيني،

بيْنما أنا سَجينُ حاضِرٍ مَلمُوسٍ وكَسيح

خالٍ من الرَّغباتِ والكَرامة.

وكُنتَ أنتَ حُضورًا يقِظا في لياليَّ،

حِينما أرْكلُ الأغطيةَ وأُزيحُها عنّي

وأنْتَ، يا حارِسَ اللَّيْل،

كَعادتِكَ العَذبة

تُرْجِعها فوقي.

■■■

أُمّ

ابْتسامَتُكِ، بطعم البُرْتقال، تحدّق فيَّ

وتبْقى عيْناكِ صامتَتيْن

معلَّقتيْن في أنْفاسي، وأنا

أتأمَّلُ، في شكٍّ، هذا الكَوْن.

الحيْرة في هذا العالمِ الحَزين تجْعلني ألهثُ

وهي تنْقضُّ على عقْلي،

تلكَ الزّاوية التي تضجُّ بالأفكارِ

وبالأسئلة المُثيرة للهَوس.

وأنتِ تَنْظرينَ إليَّ في قلقٍ، يا أمّي

تَحسَبينَ الألمَ فيَّ، أو القُنوط

وأنا أدفع عنّي يدَ العوْن

وكلّي حاجة للسُّكون.

لا تقْلقي دونَ جدوى، يا أمّي.

فأنا أتفكّرُ، في حيْرةٍ، في هذا الكَونِ المُبتَذل

ولكنّني، بعد هُنيهاتٍ، سأعودُ

لأنْشغلَ بما هو آنيّ.

تُمرّرينَ يدكَ على رأسي، بِصمْت

وتَصحَبينني، خاليًا من المخاوِفِ الّتي لا تَعنيني

فأبتَسِمُ، مرّةً أخرى في ابْتِسامَتكِ، يا أمّي.

ترجمة عن الإيطالية: كاصد محمد








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي