صلاح فضل وأساليب الرواية العربية المعاصرة

2023-01-28

صالح الرزوق

يقلل صلاح فضل في كتابه «أساليب السرد في الرواية العربية»٭٭ من شأن الأيديولوجيا في الفن. ويصنف الرواية العربية في ثلاثة حقول: درامية وغنائية وسينمائية. ويشير لعدم وجود جدران تعزل كل حقل عن الآخر، وكأنه يردد ما سبقه إليه بيار بوردو: أن الحقول متوازية وتقطعها خطوط القوة. فاتجاه الكاتب وطرق تفكيره تحدد شكل وبنية الأسلوب. مع ذلك يضع فضل رواية «يوم قتل الزعيم» لمحفوظ مع رواية «خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر مع الروايات الدرامية، رغم وجود خلاف راديكالي بينهما. وإذا كان يعتقد أن أهم عناصر الأسلوب الدرامي هي الجغرافيا والتاريخ ثم المنظور وأخيرا المادة، هذا يكفي لعزل الروايتين. فالأولى لا تهتم بالمكان والزمان، وحرصت الثانية على إجراء محاكمة صامتة بين البيئة الثابتة والتاريخ النفسي والاجتماعي المتحرك داخل الشخصيات. ثم ينتقل إلى «الولاعة» لحنا مينة، ويضفي عليها أربع صفات هي: البساطة والكلاسيكية، تقديم حبكتين متضادتين، ارتفاع صوت الأيديولوجيا، واستعمال اللغة الثالثة. وفي رأيه إن رواية «الولاعة» ملوثة بشوائب من القصيدة المدورة وأدوات المسرح التجريبي، والاتكال على الكنايات (وهذه صفة ملازمة للسرد الواقعي كما يقول جاكوبسون) لكن بصراحة مطلقة لا يسعني أن أعمم مقولة ياكوبسون الصائبة على رؤية حنا مينة للفن. فالكناية تفرض على اللغة فراغات، وهي جزء من شعرية الكتابة. ويصح مثل هذا الكلام لو أننا في نطاق الواقعية الموضوعية – نموذج بلزاك وزولا.

ثم ينتقل إلى الأساليب الغنائية، ومن أمثلتها عنده «هنا الآن» لعبد الرحمن منيف، «هاتف المغيب» لجمال الغيطاني، «تجربة في العشق» للطاهر وطار، «كناسة الدكان» ليحيى حقي و«سرايا بنت الغول» للفلسطيني إميل حبيبي. ويختتم دراسته بالأسلوب السينمائي وأهم أمثلته في رأيه «وردية ليل» لإبراهيم أصلان و«ذات» لصنع الله إبراهيم. ويجمل خصائص الشكل الغنائي في ما يلي:

*اللغة تنتج الواقع بالتبادل والحوار.

*المعنى لا يتحقق بشكل جازم ولا يكتمل إلا بالنظر والموازنة مع تشكيلات كتابية خارج النص.

*والمعنى ينتقل من مجال التاريخ لفضاء أسطوري.

* فقدان الوعي بالفارق الذي يفصل لحظة الحدث عن لحظة التذكر.

*ثم سيطرة الضمائر الشخصية.

غير أن مثل هذه التعريفات لا تساعد على اكتشاف الفرق بين أدبيات السجون والأدب المتحول من الخيال الشعبي (نمط «سرايا بنت الغول») أو أدبيات التصوف (وهي رحلة ذاتية تلغي بها الحدود نفسها لتحقيق الجوهر الواحد – نمط «هاتف المغيب»). ثم الأدبيات السريرية – بمعنى العيادية (ومنها رواية وطار «تجربة في العشق»). فاللاز – النبي أو المسيح الشعبي عند وطار، هو حلقة من تداعيات سريرية على شاكلة «مالون يموت» لبيكيت، ويكشف بها عن مظاهر الوعي الباطن. ويكفي أن أدب الخيال الشعبي يدور حول جهل الجاهل بينما التصوف يركز على جهل العارف.

بقي الأسلوب السينمائي. ويحدد شروطه كما يلي:

*الاهتمام بالمكان وليس الزمان.

*العناية بالتوقيت من خلال قرائن: ظلمة أو نور، ساعة، إلخ…

*استنتاج المرحلة التاريخية من تبدل في مظهر الأشخاص والعمران.

*تقريب وإبعاد المنظور مثل عدسة كاميرا.

*استعمال الإيحاء بالعواطف وليس الإبلاغ كطريقة المصافحة أو تقديم الضيافة.

ولا يوجد أي اعتراض على هذه المعايير، وإن كنت أفضل استبعاد «ذات» لصنع الله إبراهيم من هذا السياق. فهي رواية تسجيلية تستعمل الوثائق والإعلانات والأخبار لزيادة الاندماج بواقع اللحظة. ولصنع الله رواية سينمائية واحدة هي «بيروت.. بيروت». وأساسا تدور حبكتها عن محاولات كاتب سيناريو لبيع كتاباته. ويستعمل كل أساليب السينما ومصطلحاتها مثل قطع، زوم، لقطة قريبة، بعيدة وما شابه ذلك. وفي ذاكرة الرواية العربية عدة تجارب تدمج السرد بالتصوير ومنها «سلام» لهاني الراهب، و»عبر الليل نحو النهار» لمحمد الراوي، و»تحريك القلب» لعبده جبير، بالإضافة لأجزاء من رواية «شرف» لصنع الله.

أما «ذات» بالتحديد فتدخل في ما نعتبر أنه ميتا رواية بحيث يكون التركيز على المادة – موضوع الحدث، لكن يتم توزيع الحبكة بين المتن والهامش، وبأسلوب تجاور وتضاد تغني به حواشي البنية السردية. وهذا الأسلوب ليس غريبا على الفن التشكيلي وبالأخص في الاستفادة من النفايات واللقى (وهو مجال نشاط الثنائي العراقي علي رشيد والهولندية كيتا باردويل) ولذلك يمكنني اعتبار «ذات: نموذجا على الرواية التكوينية -genetic novel. وهو أسلوب هجين يجمع في بناء واحد التوثيق والتشكيل. وفي كل هذه القراءات لا يفوت على أحد ثلاث ملاحظات:

الأولى إغفال الروايات الريفية.

الثانية غياب أي إشارة للانقلاب الاجتماعي الذي حول المدينة من جغرافيا متكررة إلى جغرافيا حاملة، أو لنشوء ظاهرة مجتمع داخل مجتمع آخر. فقد مزقت الحرب الباردة المدينة العربية بعد الاستقلال، قبل أن تمزقها سلسلة الحروب الأهلية.

وآخر ملاحظة الاهتمام بعلبة المصطلحات الغربية التي تدعي أنها ذات توجه فني وعلموي – موضوعي، مع أنها في الحقيقة نتاج حرب دامية ضد النازية والفاشية. ولا يمكننا غض النظر عن دور مؤتمر الحرية للثقافة الذي مول عشرات المشاريع ومنها مجلة Encounter ثم مجلة «حوار». ولمن لم يسمع به، هو أحد آباء جمعية قلم الدولية Pen International، وصورة بالمرآة لمؤسسة فورد فاونديشين، صوت القرن الأمريكي. وحتى لو آمنا بأن النقد الغربي بريء من السياسة لا يمكن إنكار إعلامنا الموجه. واغتيال المثقفين والتمثيل بهم ليس مسألة نادرة، لا في فترة الاستعمار المباشر، ولا حتى بعد الربيع العربي. والأمثلة كثيرة، لكن أشهرها حالة عقيل علي وكامل شياع في العراق، والروائي شكيب الجابري في سوريا. حتى إن عدم الاستقرار جعل التنبؤ بالمسموح والممنوع مهمة مستحيلة، وأصبحت المشكلة تبدو وكأنها مخالفة لإشارة مرور لا تعمل بانتظام، على حد تعبير الإثيوبية ميرون هاديرو. ولا عتب على صلاح فضل. فهجرة الأفكار منذ نهاية القرن التاسع عشر تأخذ اتجاها واحدا، وإذا كانت مصادر التسليح في دول المواجهة شرقية، فإن مصادر التنوير لا تزال تدين للغرب بكل شيء ومنها الماركسية في كل أشكالها. فقد هاجرت إلى المشرق بالتزامن مع اكتشاف أديسون للكهرباء 1879. ولعب كلاهما دوره في تمزيق المؤسسة من جهة الروح – المثاليات، والمادة – الواقع. وليس في ذلك ما يدعو للخجل أو التشاؤم، فروسيا الحديثة تبني مجدها في الرواية بتجزئة وحدات السرد الطبيعي والثقافي، وهو ما يفعله ميخائيل شيشكين منذ عقود في محاولة للتصالح مع التاريخ، في حين أن العرب يتصالحون مع الجغرافيا، ولذلك تبدو رواياتنا وكأنها توطين لظاهرة الاستشراق، وتستطيع أن تلاحظ وتعزل في الوقت الحالي عدة عناصر استشراق تراجيدي منها: الهوية الوطنية، فهي مستعارة من دستور غير تجريبي وجاهز ووصلنا إليه بالترجمة والتعريب.

٭٭ صدر الكتاب عام 2018 عن قصور الثقافة في القاهرة. 278 صفحة.

كاتب سوري







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي