رواية «الفراشة الزرقاء»: اجتيازٌ ظافرٌ لعالمين زمنيين

2023-01-25

نسرين بلوط

تنساب رواية ربيع جابر «الفراشة الزرقاء» في رقصةٍ متعثرة تحتدمُ وترتطمُ بجدار الماضي لترتد صدى باهتا إلى الحاضر، يوزع الكاتب نفسه بين عصرين، عصر جدته التي تدور الرواية حول قصتها الحزينة التي تعتق الحنينَ في قوارير الاحتباس الذهني للذكريات العابرة، وأيديولوجيا التغيير الذي طرأ على حياة البطل نور، الراوي الذي يتنقل بصوته ليتفرع ويصبحَ عدة أصواتٍ تتبارز في ومضٍ سريعٍ للمشاهد البصرية العابرة التي تحتفي بالحدث وتهلل له ثم تقطعه في أنفاسه الأخيرة لتعود إليه لاحقا. وبخفةٍ انسيابيةٍ تتميز بها روايات جابر، يتحرك مثل طير تهدهده الأغصان بين كل من الشخصيات الرئيسية والثانوية، بمشاعر متشابكة ومتقاطعة، ويمضي في سرد قصة الجدة التي قدمت من بلدةٍ ريفية بسيطة، وشهدت مواسم البؤس واليتم والأسرار الغافية تحت مواقد الذكريات.

تبدأ القصة مع سهيل بابازوغلي، الذي سجن لمدة عشر سنوات بتهمة سرقة سوار من الصائغ، بعد أن كانت آمال أبيه يوسف تنصب على تعليمه ليصبح طبيبا، ويتعرف في حبسه على إبراهيم بخعازي الذي سُجن بتهمة القتل، فتتوطد أواصر الصداقة بينهما، لكن الأخير يموت ويترك لسهيل قطعة أرض صغيرة عربون وفاء منه. وبعد خروجه من السجن يتزوج سهيل وينجب جوزف وجورجي اللذين يتعلمان مع جد الراوي ويدعى سليم حداد في المدرسة وقد تصادقا معه ليلتحموا جميعا في عالمٍ مفرط الحميمية والإخاء. وتشاء الأقدار أن يقع جوزف في حب زهية جدة نور وكانت عاملة في معمل بورتاليس لتربية دود القز، الذي يمتلكه بروسبر بورتاليس القادم من عائلة مرفهة عريقة، بعد أن مات أخوها طفلا، ثم رحل والدها وأصيبت والدتها بالشلل، لكن سليم يبدو مثل السارية التائهة في مساء مسحور، إذ يكبت حبه لها مراعاة لصديقه ووفاء لعشرتهما، وينتظر الفرصة السانحة. بعد أن يقرر جوزف وزهية الارتباط، يبدل جوزف رأيه بغتة ويعلن رغبته في السفر مع شقيقه جرجي إلى افريقيا. فقد داهم الجراد القرية وانقض على الزرع، ومات أبوهما في الحقل.

يلّوح سليم لصديقيه الأخوين بابازواغلي مودعا والمروج لم تبرد بعد من الصاعقة المرة التي نزلت على زرعها، فأكلت الأخضر واليابس، وقد باتت البلدة له شاحبة متداعية. ومع مرور الأيام، يبدأ في إغداق الحنان على زهية، ويعلن لها رغبته في الزواج منها، فتوافق بعد تردد قصير وقد تيقنت بأن جوزف لن يعود، وأن الوهم الذي حبكته بتطريزٍ شائق حول فراشة زرقاء تشبه الحب له قد تضاءلت وتفجرت قهقهة ساخرة لمر الواقع، كما حدث مع صاحب عملها بروسبر بورتاليس الذي خال بأنه أبصر فراشة زرقاء في طفولته وصرف سنوات عمره عبثا بحثا عنها.

يرتبط جده سليم بجدته وتتوالى السنون ويكبر الأبناء، ويظهر فجأة جرجي يطرق باب دارهم وقد أعيته الغربة وهده الحنين لقريته يزدرد أشواقه بلهفة العائد وعناية الغائب منذ دهرٍ مضى. يخبر جرجي جده بأنه أبلى بلاء حسنا بسفره مع جوزف فاستقرا في مصر وكونا تجارة مربحة وجنيا أرباحا طائلة، لكن أخاه توفي بمرض السل، وكان قد حاول علاجه وسافر معه إلى برلين، لكن صحته ما لبثت أن تدهورت فرحل بعد معاناةٍ هائلة. يبني جرجي نزلا مجاورا لمنزل الجد ويستقر في القرية عازما على قضاء ما تبقى من عمره فيها. لكن الشك يدهم قلب الجد ويشعر بأن من يكلمه هو جوزف وليس جرجي، وأنه انتحل صفة أخيه وأنه ما زال يحب زهية، وأن مرارة الانتقام قد تكفلت بمشاعره الكالحة بالحقد، فيقرر الذهاب إلى المدينة لقبض تعويضه والذهاب إلى مصر حتى يستفسر بنفسه ويجلو حقيقة الأمر، ويسأل إن كان الذي مات حقا هو جوزف، أم أن الأخير يبتكر هذا الرياء الجاحد، لكن الجد يقضي غرقا في البحر، ويعيش جرجي ما تبقى من أيامه وحيدا منعزلا بعد أن أمر خادمه بإقفال النزل وإبعاد الغرباء عنه، ويتسربل في وحدة تتضرج بالجروح البارزة والذكريات الضامرة التي خلفها له الماضي. يموت بعد سنوات قليلة وقد أوصى بالنزل قبل وفاته للجدة زهية فأصبح ملكا لها وأورثته بدورها لحفيدها نور الذي يقص الحكاية بلوعةٍ، وقد جعل حكايته الخاصة تتخلل مجرى الأحداث فروى القليل عن تعلقه بفتاة لا تلبث أن ترحل عنه بعد أن تردد وامتنع عن الارتباط بها.

ربيع جابر بحضوره التأسيسي للرواية العربية يبتكر أسلوب التنقل الخاطف السريع الذي يتصدى للسرد التفصيلي دون أن يسبب أي تشويش للمتلقي، ويدعم الوجود القبلي الذي يتمسك بالأرض الصلبة كنوعٍ من التحكم بالزمن والتصالح معه، فالبطل يأبى أن يبيع النزل الذي أورثته إياه جدته لأن رؤيتها الخاصة باتت عنده بمثابة احتكار، فيجنح إلى مزاوجة ابتكار الأحداث في دوامة من الشحذ والتغريب للروح، متسلقا بأفكاره خيالا ميتافيزيقيا ورؤيويا حادا، لتنبجس منه شلالات من انجدال المشاعر والرموز، لأن أسطرته للماضي تطغى على أي عنصر إضافي يطرأ، فيلجأ للانشقاق الخيالي بين الأمس والحاضر، ليستوي على أرضٍ فوضوية ينفذ منها إلى ظلمة داخله.

هذا الاجتياز الظافر الذي قام به جابر بين الزمنين، جعل من قصته التي قد تبدو بسيطة بحبكتها وتسلسلها، رواية شيقة تجترح التناغم الكلي بين الكينونة والمثالية، وتبتعد عن الاستعراض التعبيري، وتدلج في خانة التجديد، وتعمد للتأسيس المزدوج بين الاستقطاب والاستنساب، فهو يقلد أسطورة الجبل الذي قيل إنه يجتذب إليه السفن العالقة في البحر لترتطم به وتتفتت أشلاء، ثم يضع عند كل منعطفٍ من الأحداث الشخصية المناسبة أو الملائمة له. وقد عبر عن هذا الوصف عندما قال في الرواية: «أخذتُ نفسا عميقا وأغمضتُ عيني، كأنني أتنشق رائحة العالم، كأنني ثقب أسود في الفضاء. كنتُ أجذب كل شيء إلى داخلي، وأتركه تحت جلدي وأحوله إلى جزء مني». وهكذا تنجلي لنا دلالة التزيين النصي والحرفي في سرد ربيع جابر، الذي يشير إليها بدلالة تشكيلية مجردة، تتقن حرفية الإبحار الكتابي المتقن، وتضع علامات رمزية مهمة أمام كل حدث وشخصية يتضمنها النص، ليشير إلى تغير الزمن وثباته في آنٍ واحد برؤيا نادرة تشبه الفراشة الزرقاء التي تبعث الحيرة والبهجة معا في نفوسٍ مترعةٍ بوهم الحياة.

كاتبة لبنانية









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي