خطاب الإهداء في مجموعة «قلق حامض» للتونسي جلال باباي

2023-01-21

رياض خليف

يعتبر خطاب الإهداء من أهم عتبات النصوص الأدبية التي تم الانتباه إليها منذ صارت العتبات تحظى بنصيب من الدرس، استجابة لمقترحات جيرار جينيت في كتابه «عتبات» الذي انتقل فيه من إنشائية تستند إلى داخل النص ولغته وشكله إلى أخرى تتوغّل في المحيط النصي من عناوين وتصديرات وإهداءات وفواتح نصية. هذا الإهداء يحتل مكانة مهمة في مختلف الأعمال. وهو يتحمل وظيفتين يحددهما جينيت ويرصدهما عبد الحق بلعابد في كتابه، وظيفة دلالية وأخرى تداولية، «فالوظيفة الدّلالية هي الباحثة في دلالة هذا الإهداء وما يحمله من معنى للمهدى إليه، والعلاقات التي سينسجها من خلاله. أما الوظيفة التداولية وهي وظيفة مهمة لأنها تبسط الحركية التواصلية بين الكاتب وجمهوره الخاص والعام، محققة قيمتها الاجتماعية والنفعية في تفاعل كل من المهدى والمهدى إليه».

فخطاب الإهداء ليس خطابا اعتباطيّا ولا هامشيّا رغم قصره واختزاله، وقد يرد إهداء عام يتعلّق بكلّ الكتاب أو يرتبط ببعض النّصوص. وهو في كلّ الحالات جزء من خطاب واصف استباقي.. ولعل المتأمّل في تجربة جلال باباي ومجموعاته المتلاحقة، يلاحظ أن هذه العتبة تكاد تصبح سنّة من سننه الشّعرية. فهو يحرص على إهداء القصائد إلى إنسان محدّد ودقيق، تربطه به وبنصوصه وشائج مختلفة. فالكتابة تنفصل عن التهويمات العامّة وتصبح تفاعلا وتضامنا وتعاطفا مع المهدى إليه في السراء أو الضراء. فالذات الشاعرة تمارس بواسطة الإهداء انفتاحها على الآخر وأحاسيسه. هذه الظاهرة يتمسّك بها جلال باباي وتبرز أيضا في عمله الصادر مؤخرا بعنوان «قلق حامض». وهو عمل يغيب فيه الإهداء الرئيسي لكامل المجموعة، مقابل حضور داخلي متميز. فالإهداءات تتصدّر القصائد مختلفة.. ويمكن تصنيفها حسب اتجاهاتها.

إهداءات إلى المثقفين:

تواكب بعض الإهداءات الحدث الثقافي والإبداعي متفاعلة مع ضجيج المبدعين، ومع تظاهرات ثقافية مختلفة، على غرار إهداء «أصابع من رخام» «إلى الباذخين بقصائد الضيق هذا الصباح في رواق علي خوجة بالمهدية» أو إهداء قصائد «المواسم السّاخنة» «إلى من خيّروا الإقامة تحت خيمات الفنون ذات مهرجان بالمهدية». وتبدو هذه الإهداءات منتصرة للفعل الثقافي البهيج، وهو الفعل الذي أصغى إليه الشاعر وانخرط فيه لعقود مواكبا للحدث الثقافي، ومسهما فيه، منظّما وشاعرا ومتابعا إعلاميا. وإذا كانت هذه الإهداءات مستندة إلى الفعاليات الثقافية، فبعضها الآخر تفاعل مع رحيل بعض المبدعين.

فيبدو بعضها موحيا بخطاب مقاوم للموت، على غرار الإهداء الموجه إلى روح محمود درويش، في «الفارس يمتطى بلاغة موته» فيصبح الموت مشهدا ممتزجا بالفخر والمجد من خلال استحضار صورة الفارس ذات المكانة والعظمة في ثقافة الإنسان العربي. فهذه الكتابة تتجاوز الموت، القدر الحتمي وتتحدث عن مقارعته وهزمه وهذا ما يلوح في الإهداء: «إلى روح الشاعر الراحل محمود درويش هذا الكائن الذي هزم الموت مرتين بقلب بلوري يتقلب على ألسنة من نار».

وفي هذا الصنف من الإهداءات يأتي الإهداء الموجّه إلى الشاعرة التونسية الراحلة زهور العربي «قبل أن تخلي شجرة الربيع المكتظة بالملكات».

ويمكن القول إن هذه الإهداءات التي تعوّض الرثاء التقليدي تحمل معنى هزم الموت ومعالجته وهذا ما يفصح عنه المتن. فهذه الإهداءات المتفاعلة مع الثقافة وشخوصها تحمل بعد التعاطف والتضامن، لكنّها أيضا تعلن الانتصار للحياة واستضعاف الموت. وهو ما نلمحه في بعض الإهداءات الأخرى الخارجة عن هذه المجموعة والمتصلة بالموت على غرار الإهداء الموجّه إلى روح مها القضقاضي «خالدة تبقين بين أجنحة القصائد» وهو إهداء آخر يتحدى الموت من خلال إعلان خلود الميتة. فنحن أمام إهداءات معاندة الموت فعلا، انتصارا لخطاب الحياة مقابل خطاب الموت.

إهداءات إلى المحيط القريب

في المجموعة الثانية من هذه الإهداءات يوجّه الشاعر إهداءاته إلى عناصر قريبة منه ومن وجدانه، معبّرا عن الوفاء والاعتزاز ومشاركا إيّاهم لحظات من أعمارهم، على غرار الأبناء والزملاء والأشقاء والأم والحبيبة، وهي إهداءات تعلن المحبة والوفاء، أو تذكر بأحداث معينة أو مشاركتهم بعض الأحداث مثل «إلى شقيقي العزيز حبيب بمناسبة اقتحامه وإحالته على شرف المهنة».

هذه الإهداءات الاجتماعيّة تعبر عن انفتاح الشاعر على محيطه وتحيل على تجربة الشعر العائلي الموجه بدرجة أولى إلى المحيط العائلي، خطابا مباشرا. ولعل الشعر هنا يصبح نوعا من الترسل الداخلي بين أفراد الأسرة، فيغدو خطاب الإهداء خطاب اعتراف عائلي وفضاء تبادل المشاعر.

وعليه يمكن القول إنّ خطاب الإهداء عند جلال باباي هو تكريم لمحيطه وأصدقائه وانتصار للروابط الذّاتيّة وغوص في تفاصيل الذات.

كاتب تونسي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي