«سبع رسائل إلى صالح بن طريف»: حوار الزمن والهوية

2023-01-19

ادريس الجاي

«في برغواطة أمانة وبذل للطعام وتجنب للكبائر من الحرام والمحظورات من الآثام».

ابن حوقل

يبصم الكاتب والروائي شعيب حليفي الحائز جائزة وزارة الثقافة المغربية لسنة 2020 عن روايته «لا تنسى ما تقول» نهاية السنة الحالية بعمل جديد، «سبع رسائل إلى صالح ابن طريف» الصادر عن منشورات القلم المغربي. رسائل شوق وتوق إلى زمن مؤسس الإمارة البرغواطية، التي وجدت في غرب المغرب من عام 740 إلى1059 في بلاد تمسنا على ضفة المحيط الأطلسي، التي كان يحدها شمالا واد برقراق، وجنوبا واد أمي الربيع وسجلماسة شرقا. في هذه الرسائل السبع، يحاور حليفي الزمن وتعاقب السنين وطمس للهوية. يفتح نافذة، تهيب بالقارئ أن يلج يماً عميقا، مغرقاً في غياهب وهاد التاريخ. رسائل يعانق فيها الكاتب، الذي عودنا سرديات مفتتنة بالذاكرة الشفوية، التي يسجلها بمداد الفخر والحسرة لعالم مرتع طفولته ومضارب والديه، في مدينة السطات، ومنطقة الشاوية. يشخص هنا السرد الروائي والبحث التاريخي اللذان يسيران يدا بيد وقدما بقدم، امتزاج أحدهما بالآخر، كما يمتزج الزيت والماء. فهذه الرسائل السبع إلى بويا صالح، كما يحب حليفي دائما أن يسميه، هي أناشيد وترنيمات تصب في حرقة وظلم التاريخ، لقوم «استعادوا (المغرب) الأقصى وخلصوه من جور بني أمية، وسجلوا في التاريخ العربي أول ثورة تحررية، تقوض حكم الظلم وتعصف به إلى الأبد». مرتكزا في سياحاته المتصفحة لثنايا التاريخ، المعيرة لكتابات من سبقوا في تسجيل تعاقب الأحدات ودورة الإمارات وصفحات الأسفار والكتب الصفراء، بحثا عن الحقيقة المنصفة لماضي أمارة وأمة، أُقبر ودفن تاريخها ونسي كالقمامة تحت الأسوار الشاهقة وعلى عتبات القصور الباذخة، متروكا في لفافات خلف الأسماء والأحداث الشهيرة. رسائل ترشح بحوارات ذاتية، منحها الكاتب سلطة المناجاة وفيضا من التساؤلات، المغرقة في سر سطور الصفحات، وتدوينات مؤرخين علمين، شكلا عبر تاريخ طويل ربان من جاءوا بعدهما في ما يخص تاريخ برغواطة. أبوالقاسم محمد بن حوقل (643 ـ 988) التاجر الجغرافي الشرقي المولد، الذي زار المغرب وعاش في زمن أمارة برغواطة، وأبوعبيد الله البكري (1014ـ 1094) الأندلسي أكبر الجغرافيين في الأندلس، ومن نقل عنهما لاحقا كابن خلدون وابن عذاري وعبد الواحد المراكشي وغيرهم. فالرسائل في ذاتها حوار ومناجاة، أسئلة أهم من الأجوبة، كما يقول الفيلسوف الألماني كارل ياسبر. إنها أسئلة تطول الزمن تجادله، تفت في عضد المؤرخين حاطبي الليل، تقلب مجرى الأحداث ذات اليمين وذات الشمال، تسائل مجرات الثابت والمحتمل، سعيا وراء، الحقيقة المستترة.

سبع رسائل، رقم سري مطلسم بحمولته الدلالية، كرحلات مغامرات سندبادية بين مراجع التاريخ، تتوغل في بحور سبعة من الصفحات والتدوينات الشرقية والغربية. رسائل يرحل فيها شعيب حليفي بالقارئ إلى عوالم سبعة، إلى محطات سبعة، الى خيالات سبعة، الى سنوات 740، ميعاد تأسيس أمارة برغواطة ومؤسسها وبطلها صالح بن طريف بن مالك، بطل تمهيد الفتح الأندلسي، الذي ما زالت شبه جزيرة طريفة في بلدية قادس في الأندلس، تحمل اسمه حتى اليوم. رسائل سبعة إلى أمارة برغواطة و»حكامها سبعة ملوك وتلاهم آخرون جاؤوا في تلك النهايات». إلى ذلك المؤسس الذي اعتزل الأمارة وتنبأ بعودته في فترة حكم الأمير السابع لدولة برغواطة. هذه الدولة، التي امتدت من سلا شمالا إلى أزمور جنوبا، وكانت حدودها تزيد تارة عن هذه البقعة وتتقلص تارة أخرى. وامتد بها عمر وجودها قرابة أربعة قرون، كأطول عمر دولة مغربية مستقلة عن الحكم العباسي في الشرق والأموي في الأندلس، منذ الأدارسة حتى السعديين. وظهرها مسنود إلى المحيط الأطلسي، الذي يتقيأ البغاة والطغاة والغزاة، وبفيض المآسي والويلات، ووجهها شطر أرض بسماء مدرارة بالعطاء والخيرات، ومن حولها المكائد والغارات وغزوات وحروب دول متاخمة، الأمويين، الأدارسة، المغراويين، بنومدرار، الفاطميين، ثم المرابطين.

فالرسائل توق إلى تلك الصورة العامة لـ»نمط من التحرر الوطني للعصر الوسيط، وأفضل تشخيص في مجموع الغرب الإسلامي للمثاقفة الدفاعية». يقول حليفي.

لقد انتظر الزمان عودة صالح بن طريف، كما انتظرها شعيب حليفي وهو يحاوره، يبين له، أن هذه الرسائل ليست من أجل: تصحيح الافتراضات، أو تقليب النوايا، أو شم «رائحة المداد الذي كتبوك به» إنه ينتظره كما ينتظر الجميع بسؤال: «متى نكون ما نريد نحن؟».

قبل الكلام يأسف حليفي، الذي يبرز كباحث، مغامر ينسل إلى متاهة وثنايا دروب التاريخ، يسبح في بحره، يحلق بين مجراته الملتوية، المعقدة، بحثا عن قبس في ظلام بهيم حالك، يقلب صفحاته الظاهرة والباطنة، المعلنة والمنسية، المتحرية الصدق والمفترية، عن تاريخ غير ذلك، الذي لسوء حظ المغرب، كتبه: «ولمدة طويلة هواة بلا تاهيل، جغرافيون أصحاب أفكار براقة، موظفون يدعون العلم، وعسكريون يتظاهرون بالثقافة». حليفي يحاول أن يلملم شتات شظايا هذا التاريخ، أجزاء فسيفسائه المبعثرة، ليرتبها من جديد، ليجد لهذا التجميع قدما في مجريات توالي قرون تامسنا الضبابية. كابن بار للمنطقة وللمغرب عامة، يحاول إنصاف تاريخه وماضيه. يكتب حليفي ويغضب لهذا البلد، الذي: «هل كان المغرب مجالا لمبادرات الغير؟ أين مبادرات أهل البلد.. أهي في الحروب فقط.. نسمع ونقرأ للغزاة الفاتحين، فنعجب مما فعلوا، ونستغرب مما قالوا، وكيف حبكوه، ولم نسمع صوتنا في تلك اللحظات. هل قدرنا أن نتكلم الآن بعدما صمت الجميع؟ كثيرة هي الأشياء الخادعة والموهمة، كأننا نعيش تكرارا معتما».

نلاقي في فصل حوار داخل المرآة وخارجها، حوارا يغوص بعيدا في عمق الأسطورة، متراجعا إلى الوراء إلى تاريخ ما قبل التاريخ، إلى آلاف السنين، بل إلى ملايين السنين، بحثا عن النشأة الأولى لهذا الكائن المغربي. فيبحث حليفي في طيات الأسطورة وطبقاتها المكونة لأصول الجنس البشري المغربي. فيستعرض ما قيل فيه وما لم يُقل ويجنح إلى التدرجات والانحدارات والمناطق الجغرافية المترامية فوق الكرة الأرضية والأسماء والنعوت والصفات والهجرات وتحولاتها، وتعاقب الأزمنة واختلاف الأمكنة، ليصل إلى عصارة هذه الآراء، التي «تصر في ما يشبه الإجماع على أن بلاد المغرب، التي هي أقصى نقطة في الغرب الافريقي على الساحل الأطلسي، بحر الظلمات، هي أرض الفارين وبلاد الخطيئة». لكن شعيب حليفي يبرئ هذا البلد وهذا الإنسان، الذي يعيش فوقه من الخطيئة ببساطة الأشياء والاعتراف، بأن أصل هذا الجنس المغربي، يعود إلى هذه الأرض. إنه يطرح أسئلة مصيرية، مفاتيح لفهم المستقبل من خلال الإطلالة على الماضي، فمن لا ماضي له لا مستقبل له. أسئلة يعانق فيها مؤرخين وباحثين يجعل منهم دعامة لأطروحاته القلقة المستفزة، فيتساءل مع عبد الله العروي إن كان التاريخ، «فن قبل أن يكون علما، ورواية قبل أن يكون مقالة تحليلية».

في هذا الحوار الذي تعكس فيه المرآة ضوء البزوغ التاريخي، وتجلي فتنة حلفي بتاريخ هذه المنطقة تامسنا ضمن تاريخ مغربي شامل، تبدو فتنته فتنة لا تروم إلى، أن تكون قارة، جامدة ثابتة، بل متحركة ومتحولة، فاعلة في خيوط نسيج الماضي، فتنة تدفع بالبحث إلى أقصى مداه المشتعل، وليس الوقوف عند الضفاف الآمنة. إنها تصوغ منه أشرعة ومراكب قادرة على الإبحار في أعمق نقطة لبحر لجي يغشاه ظلام من فوقه ظلام. سفنا تجوب البسيطة من شرقها إلى غربها، بحثا عن هذا الترابط المغربي، الافريقي الإنساني وتلاحمه مع العوالم والحضارات الأخرى التي عبرت فوقه، أو التي غازلته. تعرج الرسائل بالقارئ إلى طبقات من حقب قل من نفض عنها الغبار، أو عبأ بها. ثم تتوالى الرسائل السبع، بهواجسها بمقارعاتها، بأسئلتها، التي تتوالد، تتكاثر تنفطر عنها أسئلة غيرها، بحثا عن أجوبة لا وجود لها. أسئلة تجمعت فيها الأضداد من أولها حتى ختمها، كتلاقي الماء والنار في المنبع الواحد. «لكنني يا صالح لم أستوعب ما جرى.. لا أريدك أن تجيبني لأنني أحس بكل ما جرى، كأنني كنتُ هناك، أو شاركتُ في الثورة ورأسي ملفوف بعمامة حمراء، ومرتديا فرجية بيضاء أشدها بحزام أخضر». يعانق الحلم التغيير في الرسائل وينشد أنشودة ينتظرها فجر جديد، فالرسائل لم تكتب، لمجادلة الآخرين، ولا لتتبع أخطائهم ولا لإثبات ضلالهم، بل كتبت لإعادة ترتيب منظومة عصف بها الزمن وطالها النسيان في خضم زوبعة تعالي المنتصر، وسيطرته على منابع آيات التدوين حتى إبادتها وإتلافها. «أكتب إليك اليوم، ليس ردا على أحاديث المؤرخين التي لا تستند إلى وثيقة، أو شهادة، وإنما لأن الافتراء يتلاشى أمام عظمة الزمن والتاريخ».

تاريخ أمارة ألصق بها الضلال والزيغ عن الطريق المستقيم، ودين جديد وتنزيل محدث من صالح بن طريف، ولقبه صالح المؤمنين، غير أن كل هذه الإسقاطات التي لا تستند إلى وثيقة، يضرب عنها حليفي صفحا لأنها لا تسند ظهرها إلا على: «شهادة لا يوجد لها أصل لمبعوث برغواطي في سفارة إلى الحكم المستنصر في قرطبة سنة 963 .. فكل المؤرخين والجغرافيين والرحالة قبل بن حوقل والبكري وابن عذاري زمنيا، لم يذكروا من هذا الأمر شيئا: مثل ابن الحكم والبلاذري».

في الختام يقرر شعيب حليفي، الترقب ومواصلة كتابة رسائله، التي يخاطب فيها بويا صالح، سينتظر لكن لن يتوقف عن الكتابة وطرح الأسئلة:

ـ انتظرُ في خضم هذا السماد برائحته الحارة، سأكتبُ، رسائلي إلى صالح بن طريف.

ـ هل عاد أخيرا.. أم يتأهب للعودة ؟

ـ هو لن يعود، لن يعود. لكنه ينتظر عودتنا نحن بشغف.. وها أنا أكاتبه.

ـ تكاتبه أم تكاتبنا نحن؟

ـ (…).

كاتب مغربي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي