يا صاحبي إني حزين: مع شعر صلاح عبد الصبور

2023-01-15

مروة صلاح متولي

في ديوان «الناس في بلادي» الديوان الأول للشاعر المصري صلاح عبد الصبور، الصادر سنة 1957، توجد قصيدة «الحزن» المشهورة بمطلعها القائل «يا صاحبي إني حزين» الذي صار بمثابة عنوان آخر للقصيدة. ومع شعر صلاح عبد الصبور يكون المرء دائماً في حال غير الحال، إذ يسود الإحساس بالقرب الشديد من النبرة الشعرية والكلمة والتعبير، فالآلام هي الآلام، والأحزان هي الأحزان، والمخاوف هي المخاوف. فهذا شاعر شديد المصرية وضمير من ضمائر مصر، ستبقى كلماته حية نابضة على مرّ الزمان، وعند لحظات معينة تأتي كلماته من تلقاء نفسها، دون استدعاء، لتتردد في الآذان وتدور في الأذهان، كقوله في مسرحية ليلى والمجنون: «يا أهل مدينتنا هذا قولي، انفجروا أو موتوا، رعب أكبر من هذا سوف يجيء، لن ينجيكم أن تعتصموا منه بأعالي الصمت» أو كقوله في قصيدة الظل والصليب: «هذا زمن الحق الضائع، لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله، ورؤوس الناس على جثث الحيوانات، ورؤوس الحيوانات على جثث الناس، فتحسس رأسك، تحسس رأسك».

أتى الشاعر إلى هذا العالم ليلتقي بالكلمة على أرض مصر، وليعيش خمسين سنة فقط، كانت كل عمره منذ أن ولد سنة 1931 في مدينة الزقازيق، عاصمة محافظة الشرقية، إحدى محافظات دلتا النيل، وحتى موته في ليلة مشؤومة من عام 1981 في القاهرة. قاهرته التي استحوذت عليه تماماً وإلى الأبد، منذ أن ولج بابها السحري للمرة الأولى، حين كان في السابعة عشرة من عمره تقريباً، وتوجه إلى جامعة القاهرة في الجيزة، ليجلس في مقعده طالبا في قسم اللغة العربية في كلية الآداب، ولتشرع الموهبة وتنطلق بجرأة نحو خلق صوتها المتفرد، بعد انقضاء مرحلة الطفولة الشعرية، وتقليد الشعراء القدامى كشعراء الجاهلية ونظم الشعر على مثالهم، وكان الصوت الشعري الحديث، صوت الشعر الحر، صوت الشاعر الحر، الذي تحرر من كل شيء، إلا من ارتباطه بالكلمة. كانت حياته في الكلمة، وكان موته على يد الكلمة، والحق إنه لا يمكن تذكر صلاح عبد الصبور دون تذكر موته المأساوي، الذي يتخيله المرء كمشهد تراجيدي من مسرحياته الشعرية العظيمة. لكنه في هذا المشهد لم يكن هو المؤلف، وإنما كان البطل الذي يصرعه الشر التافه، رغم قوة هذا البطل. يتخيله المرء في تلك السهرة المشؤومة في بيت أحد الشعراء، وسط مجموعة من كبار المثقفين اليساريين في مصر، تضم الشعراء والروائيين، والرسامين والصحافيين، والنقاد والأكاديميين. لم يكن غريباً بين أغراب، فهم إن لم يكونوا من الأصدقاء والزملاء، فهم من المعارف على الأقل.

كان آمناً لا يتوقع الطعنات/ الكلمات التي غرست حروفها الحادة القاطعة في قلبه، يتخيله المرء كالحلاج الذي كتب عن مأساته وتعاطف معه، في مسرحيته الشعرية «مأساة الحلاج». فإن صلاح عبد الصبور كانت تشغله دائماً فكرة الفرد في مواجهة الجماعة، وما يخلقه ذلك من دراما، وكان هو في آخر مشاهد حياته على مسرح الدنيا، فرداً في مواجهة الجماعة. يتخيله المرء وهو يختبر هذا الألم الرهيب، وقد توحشت الكلمات والحروف التي عاش معها طوال حياته، وتحولت إلى أجسام وكائنات خطرة، تهاجمه وتدميه وتطعنه في الصميم، وإذا به يفقد القدرة على التعامل مع شراستها، ولا يستطيع السيطرة عليها أو الهروب منها. يتخيله المرء كما لو إنه كان يقول لهم ما قاله على لسان الحلاج في مسرحية مأساة الحلاج: «لستم بقضاتي، لن أدفع عن نفسي». رحل صلاح عبد الصبور وغادر هذه الدنيا بعد أن قتلته الكلمة، ومات معه الكثير من الشعر. والكلمات تُقتَلُ وتُغتال كما تقوم هي بممارسة فعل القتل أحياناً، وللكلمات المقتولة أن تُرثى، كما رثاها الشاعر في مسرحية «مأساة الحلاج» أيضاً، بقوله: «ما أشقاني، كلماتي قد قُتِلت». وما حدث لصلاح عبد الصبور، يؤكد أن هناك بين البشر من يختزنون الرصاصات القاتلة في أفواههم، ويشحذون ألسنتهم لتكون حادة كالسكاكين والخناجر، وأن الاقتراب من مثل هؤلاء يمثل خطراً حقيقياً على الحياة بلا مبالغة، والفرار منهم واجب كالفرار من كل ما يهدد الحياة.

لكل عمل من أعمال صلاح عبد الصبور ما يميزه، ويحظى ديوان «الناس في بلادي» بمكانة الديوان الأول، الذي حقق لكاتبه الشهرة المستحقة، والاعتراف النقدي، والوصول إلى وجدان القارئ. وكما كان شاعرنا يقول إن هناك منطقة ما في النفس الإنسانية، وحده الشعر يستطيع أن يخاطبها، فإنه في ديوانه الأول، وبكل ما أتى بعده من قصائد ومسرحيات شعرية، كان يعرف جيداً كيف يخاطب هذا الجانب من النفس. وقصيدة «الحزن» من خير الأمثلة على هذا، بما فيها من اشتعال البدايات، والمصاحبة القديمة للحزن كثيمة سيتم التنويع عليها كثيراً في ما بعد. ومفردة الحزن من المفردات الأكثر تكراراً في قصائد صلاح عبد الصبور، والصفة الأكثر إضافة للأشخاص والأشياء والأماكن، كقوله في قصيدة «شذرات من حكاية متكررة وحزينة»: «وكانت الشمس الحزينة، تصب نارها الحزينة، في الأعين الحزينة، لامرأة حزينة، ورجل حزين، في بلدة حزينة». ويظهر أن الحزن كان فكرة تؤرق شاعرنا، وكان يريد أن يقاربه من كافة جوانبه ليسبر غوره، ويكشف سره ويدرك كنهه. صاغ صلاح عبد الصبور قصيدة «الحزن» في ثلاثة مقاطع، وهي لا تعد من قصائده الطويلة، يقول مقطعها الأول:

يا صاحبي إني حزين

طلع الصباح فما ابتسمت ولم ينر وجهي الصباح

وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح

وغمست في ماء القناعة خبز أيامي الكفاف

ورجعت بعد الظهر في جيبي قروش

فشربت شاياً في الطريق ورتقت نعلي

ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق

قل ساعة أو ساعتين، قل عشرة أو عشرتين

تبدو هذه القصيدة كالغناء المكتوب، وتظل تتردد كأغنية في ذهن قارئها بعد الانتهاء من مطالعتها، بموسيقى ألفاظها وقوة معانيها وجرس نهايات أبياتها، وفي قصيدة «الحزن» يتجلى أسلوب صلاح عبد الصبور في صياغة الشعر الحر، ذلك الأسلوب الذي يجتمع فيه العمق مع الوضوح، وعلى الفور يشعر القارئ بالقرب مما خطته يد الشاعر، فهو شعر يواسي قلباً، ويلطف ألماً، ويؤنس وحدةً، ويشارك مهموماً في همه، ويحذر فزِعاً مما هو قائم وما هو آت. يبدأ الشاعر قصيدته بالإعلان عن الحزن، بأبسط الطرق وأكثرها صراحة ومباشرة، وكأنه يقول بالعاميّة المصرية «أنا حزين يا صاحبي» لكن هذه البساطة سوف تتعقد تدريجيا، وتكتسب أبعاداً أخرى في المقاطع التالية، وسنجد هذا الرجل البسيط الذي يتحدث في المقطع الأول، عما يشعر به وعن تفاصيل حياته الاعتيادية، وقد أصبح صاحب رؤية وموقف تجاه السياسة والوضع القائم وكل ما يحدث، ويستشرف ما هو مقبل أيضاً. يقول المقطع الثاني من القصيدة:

وضحكت من أسطورة حمقاء رددها الصديق، ودموع شحاذ صفيق

وأتى المساء، في غرفتي دلف المساء، والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضرير

حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم، حزن صموت

والصمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت، وبأن أياماً تفوت

وبأن ريحاً من عفن، مس الحياة فأصبحت وجميع ما فيها مقيت

حزن تمدد في المدينة كاللص في جوف السكينة، كالأفعوان بلا فحيح

الحزن قد قهر القلاع جميعها وسبى الكنوز، وأقام حكاماً طغاة

الحزن قد سمل العيون، الحزن قد عقد الجباه، ليقيم حكاماً طغاة

في هذا المقطع وتحديداً في عبارة «وأقام حكاماً طغاة» تنكشف المأساة التي لا يستخف بها الشاعر، وينتقل هذا الكشف بالقارئ من صوت الحزن الخاص، إلى صوت الحزن العام، الحزن المصري العميق الممتد. تأتي هذه العبارة كلحظة التنوير في القصة القصيرة، أو كلحظة انكشاف العقدة في الدراما. وفي المقطع الثالث من القصيدة، وهو مقطع طويل، يقول الشاعر:

يا تعسها من كلمة، قد قالها يوماً صديق مغرى بتزويق الكلام

كنا نسير، كفي لكفيه عناق، والحزن يفترش الطريق

قال الصديق: يا صاحبي، ما نحن إلا نفضة رعناء من ريح سموم

أو منية حمقاء، والشيطان خالقنا ليجرح قدرة الله العظيم

أو أن اسمينا ببرج النحس كانا يا صديق، وجفلت، فابتسم الصديق

ومشى به خدر رفيق، ورأيت عينيه تألقتا كمصباح قديم ومضى يقول

سنعيش رغم الحزن نقهره، ونصنع في الصباح أفراحنا البيضاء

أفراح الذين لهم صباح، ورنا إلي، ولم تكن بشراه مما قد يصدقه الحزين

يا صاحبي زوق حديثك، كل شيء قد خلا من كل ذوق

أما أنا، فلقد عرفت نهاية الحدر العميق، الحزن يفترش الطريق

يتوزع الحزن على أبيات القصيدة، ويسكن كل كلمة من كلماتها، كما كان يسكن نفس الشاعر صلاح عبد الصبور، وكأنه كان يحمل في داخله كل ما مرّ على مصر من أحزان في ماضيها، وما عاصره من أحزانها في وقته وحاضره، بالإضافة إلى أحزان حاضرنا نحن، ومخاوف الحزن المستقبلي التي تخوضها معنا كلماته. وإيقاع القصيدة بشكل عام هو إيقاع الحزن الثقيل، وكذلك إيقاع الأبيات وإيقاع كل كلمة مختارة، فالحزن أثقل الجسد والصوت والروح. وللألفاظ في القصيدة وقعها ودلالاتها المحددة، وهي ألفاظ عربية فصيحة، لكنها مصرية الروح، مصرية التعبير، مصرية الأجواء، مصرية الضمير، مصرية المكان، وللقاهرة تحديداً حضورها الدائم في شعر صلاح عبد الصبور، وإن لم يُذكر اسمها تصريحاً. مع كل قراءة جديدة لقصيدة «الحزن» يجد المرء إنها تطالعه بالمزيد من جَيَشان الحزن وحساسية الانفعالات، كما تبدو القصيدة في بعض مقاطعها، كجانب من قصة أو مشهد من رواية، وفيها سرد لحوار، ورسم سريع للشخصية بالقدر المطلوب في إطار الشعر. وللصور الشعرية جماليتها البالغة، خصوصاً تصوير الحزن ووصفه بأنه «حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم» أو إنه «كاللص في جوف السكينة» و»كالأفعوان بلا فحيح». بألفاظ صارمة وبجدية يحبها المرء دائماً لدى صلاح عبد الصبور، حتى هو يعبّر عن أرق مشاعر الحب في مسرحية «ليلى والمجنون» على سبيل المثال، بتلك الصرامة والجدية كتب شاعرنا قصيدة «الحزن» بإشراق بياني، وبمقدرة فائقة على التدفق في التعبير، عن وجه من وجوه الحزن في مصر التي يتقلب بها الدهر، ولا تزال تدور مع دوران الزمان.

كاتبة مصرية









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي