محطات فاصلة في «بعض ما أذكره» للأردني غسان عبدالخالق

2023-01-14

موسى إبراهيم أبو رياش

عندما قرأت كتاب «بعض ما أذكره» لغسان عبدالخالق، الذي يسرد جانبا من سيرته في الطفولة ومطلع الشباب، وجدت أنها مألوفة لي، تتقاطع كثيرا مع حياتي بشكل أو بآخر، ولا عجب، فكلانا من مدينة الزرقاء الأردنية، وتزاملنا في جامعة اليرموك، وإن لم يعرف أحدنا الآخر، وظروفنا الحياتية لا تختلف كثيرا. ولعل هذا أحد الجوانب التي تبرر الشغف لقراءة كتب السير الذاتية؛ لما تصنعه من ألفة وأنس واسترجاع وإحياء الماضي الحقيقي لا المتخيل الذي تصنعه القصص والروايات.

في كتابه، وهو الجزء الأول من سيرته، يتحدث غسان عبر ثلاثة وعشرين عنوانا فرعيا عن طفولته الصعبة، ومرحلته المدرسية المضطربة، وحياته الجامعية الحيوية الفاعلة في جامعة اليرموك، وأخيرا زواجه ودراسته دبلوم الفلسفة في الجامعة الأردنية، وتراوحت مكانيا بين الزرقاء وإربد وعمان، في الفترة بين 1967-1987. وهي أقرب ما تكون مواجهة مع الذات ومع الغير، ولذا لجأ إلى تغيير بعض الأسماء لئلا يقع في المحظور، خاصة أن معظم مجايليه ومن وردت أسماؤهم ما زالوا على قيد الحياة، ونحن مجتمع نتحسس من الحقائق، وما قد يمسنا من قريب أو بعيد؛ تصريحا أو تلميحا. وهي سيرة اتسمت بالجرأة والشجاعة والمكاشفة والنقد والنقد الذاتي. وتتناول هذه المقالة ثلاث محطات أو عناوين مهمة في سيرة غسان.

العمل

عاش غسان طفولة صعبة؛ إذ رحلت العائلة من ترقوميا/الخليل إلى الغويرية/الزرقاء، لظروف اجتماعية وبسبب عمل الوالد عسكريا في معسكرات الجيش في الزرقاء. ولما كان راتب والده ضئيلا لا يتعدى ثلاثين دينارا، بالكاد يكفي أساسيات أسرة مكونة من عشرة أفراد، فقد شعر غسان بالمسؤولية منذ الصغر، كونه أكبر أخوته، ورجل البيت في غياب الوالد، وتوجه إلى العمل مبكرا، ليوفر بعض النقود، وعلى الأقل يتدبر أمر نفقاته الخاصة؛ فمنذ الصف الأول بادر ببيع العلكة والحلوى في طرقات الحي، ثم انتقل لبيع البوظة، ومن ثم الكعك، وتوجه بعد ذلك لبيع الصحف، ثم العمل في مصنع مشروبات غازية، ولما كان المردود ضئيلا اختار العمل مع إخوته في مصانع الطوب وتحميل أكياس الإسمنت، وكان العمل شاقا ومرهقا، لكن مردوده كان ممتازا.

وأعطى دروسا خصوصية لفتاتين من المعارف، ولم يذكر أكان التدريس مأجورا أم لا، ثم افتتح محلا لبيع الخضار والفواكه، فحظي بالنجاح والربح الوفير، وسلّمه لوالده بعد تقاعده من الجيش، واضطراره هو للإقامة في مدينة إربد للدراسة في جامعة اليرموك. وبعد أن أنهى مرحلة البكالوريوس توجه للعمل في ورشة لبناء مدرسة في إربد؛ لتوفير نفقات الخطوبة، وبعدها انتقل للعمل في مكتبة، وفي الزرقاء عمل مع متعهد للتمديدات الكهربائية، وعندما التحق بدبلوم الدراسات الفلسفية في الجامعة الأردنية عمل محررا في مجلة «دراسات» التي تصدرها عمادة البحث العلمي في الجامعة، كما حصل على عمل متزامن في صحيفة «الدستور» في مجال التدقيق اللغوي، ومن ثم كاتب مقالة. يقول عن عمله قبل الجامعة: «انخراطي المبكر في بيع العلكة والكعك والصحف والمشروبات الغازية، ثم العمل في مصانع الطوب ومخازن الإسمنت، جعلني قادرا وبالتدريج على فهم العبارة التي رددها على مسامعي كثير من الكبار (الحياة هي المدرسة الحقيقية)! فقد مكنني هذا الانخراط من التعرف إلى مئات الأشخاص الذين أحببت بعضهم، وكرهت بعضهم، ولم أستطع أن أحدد طبيعة مشاعري تجاه معظمهم». وإذا كان العمل ضرورة للحياة، فإنه في مرحلة الطفولة والصبا نوع من التربية والإعداد وصقل الشخصية، وهذا ما أكده غسان في سيرته؛ إذ كان العمل المبكر مؤثرا في حياته وتشعب علاقاته وتراكم خبراته ومهاراته، ثم كان دافعا لأن يواصل العمل متحملا المسؤولية عن نفسه وعائلته، كما كان دافعا ليواصل دراساته العليا والتدرج في المناصب الإدارية والدرجات العلمية. ولم يكن هذا دأب غسان وحده، فقد كان العمل المبكر، عاملا مشتركا لكثير من أقرانه في الزرقاء وغيرها، وبعضهم لم يكن يعمل لحاجة مادية، وإنما لاستغلال وقت الفراغ والعطل المدرسية، ولاكتساب مهارات حياتية وعلاقات إنسانية، بالإضافة إلى صفات الرجولة والصبر والصلابة وتحمل المسؤولية، وتعرف دروب الحياة.

السجن

تعرض غسان في عام 1975 إلى تجربة مؤلمة وقاسية؛ إذ دخل سجن الأحداث بتهمة ارتكاب جناية خطرة، فقد كان ومجموعة من أقرانه يلعبون بــ«النقيفة» وهي أشبه بمقلاع صغير، وفي أثناء اللعب صرخ صديقه «خيري» متألما ، فهرع إليه غسان، ووجده يفرك عينه إثر دخول سلك جراء إصابتها بقذيفة «النقيفة» فأخرج السلك، وأصطحبه إلى بيته، فاتهم غسان بأنه الجاني، ودخل السجن، وأخرج بكفالة كونه طالبا مجتهدا، وحكم عليه بالإقامة الجبرية التي استمرت لأربعة أعوام، ولم يتقبل غسان التهمة، كونه واحدا من مجموعة، ولا يُعلم من الجاني الفعلي. وانقطعت العلاقات بين غسان وخيري وأسرتيهما، وبعد مدة طويلة اعترف خيري لغسان أنه لا يعرف الجاني، لكن قريبه طلب منه أن يتهم غسان لضمان تحمل مسؤولية وكلفة العلاج.

تجربة السجن القاسية، وما تبعها من إقامة جبرية، أثرت كثيرا في غسان، وأشعرته بالظلم، وأصابته بالقولون العصبي مبكرا، لكنها في المقابل حفزته على أن لا يظلم ولا يتهم جزافا. وما أصعب أن يسجن طفل لمجرد الظن دون دليل، بسبب الجشع وعدم مراعاة الجيرة والعلاقات الإنسانية التي كانت بين الأسرتين، وما أشد أثر السجن في طفل، وهو محبوس بين جدران أربعة بسبب صديق اختاره للعب، لكن اللعب انقلب وبالا وجريمة وعقابا شديدا، كما أن الإقامة الجبرية تعني حرمان الطفل من حقوقه الإنسانية باللعب خارج البيت، والتنقل كبقية الأطفال، أي أنها عذاب لا يتحمله أحد، ناهيك من طفل جبل على الحركة والنشاط والحيوية المتدفقة.

القراءة

يقولون «رب ضارة نافعة» فقد حملت تجربة السجن والإقامة الجبرية خيرا كبيرا إلى غسان، وربما كانت هي العامل الأكبر في توجيه مساره التعليمي والأكاديمي من بعد؛ فقد أهداه أخوه بسام كتابي «روبنسون كروزو» و«المتنبي» ليتسلى بهما في وقت فراغه الطويل، جراء الإقامة الجبرية، فكانا فاتحة شهية للقراءة والشغف بها بعد ذلك بشكل كبير طغى على غيرها من الهوايات، وهذا ما أهله بعد ذلك للاشتراك في مسابقات أوائل المطالعين، والتفوق فيها، وتنوعت قراءاته في الأدب والفكر والسياسة وغيرها في مرحلته المدرسية، وتزايدت وتنوعت أكثر في جامعة اليرموك، وكان شرهاً لشراء الكتب، وإن على حساب نفقاته الأساسية، ولم يكتفِ بالقراءة حسب، بل أردفها بالحوارات المعمقة والموسعة مع الأصدقاء والرفاق والزملاء والأساتذة، حول الكتب والأفكار والمشكلات الإنسانية والمجتمعية والقضايا، وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وشكلت قراءاته وحواراته أرضية خصبة للكتابة التي أبدع فيها غسان بعد ذلك في القصة والرواية والنقد والسيرة والرحلة والبحث العلمي، وغيرها من الفنون الإبداعية.

صدر كتاب «بعض ما أذكره» عام 2016، عن الدار الأهلية في عمان في 160 صفحة، لغسان إسماعيل عبد الخالق، وهو ناقد أكاديمي وأديب أردني وأستاذ جامعي للأدب والنقد، يعمل عميدا لكلية الآداب في جامعة فيلادلفيا، ورئيسا لتحرير مجلتها الثقافية، كما أنه رئيس تحرير مجلة «أفكار» التي تصدرها وزارة الثقافية الأردنية، وله عشرات الكتب المنشورة في الأدب والنقد والفكر، منها في القصة: «نقوش البياض» «ليالي شهريار». وفي الرواية: «ما تيسـر من سـيرته» «السور والعصفور» «معجم القلوب» «سِرَّ من رأى». وفي النقد: «الغاية والأسلوب» «بين الموروث والنهضة والحداثة» «ثلاثاء الرّماد» «تأويل الكلام» «حنين مؤجَّل» «الأعرابي التائه» «الرَّمز والدلالة» «بساط الريح» «الصوت والصدى». وفي السيرة الذاتية: «بعض ما أذكره» «بعض ما نسيته». وغيرها.

كاتب أردني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي