
ترجمة وتقديم: باسم المرعبي
أولف إريكسون Ulf Erikssonستوكهولم (1958): شاعر وكاتب وناقد ومترجم: مجموعته الشعرية الأولى صدرت عام 1982، تحت عنوان «كائنات من عشب» أعقبها عدد كبير من الكتب التي تنوعت بين الشعر والقصة والرواية والمقالة الأدبية والدراسة، حتى فاق عدد كتبه الثلاثين. عمل إريكسون محرراً في أكثر من صحيفة ومجلة، ومارس التدريس الجامعي، وكمترجم اختص بالترجمة عن اللغة الإسبانية. حاز العديد من الجوائز الأدبية والأوسمة. تتصف قصيدة إريكسون، وكما تشفّ عنه هنا، أغلب النماذج المختارة، بالعمق، وروح الفكر والتأمل، موليةً الطبيعة اهتمامها، ليوصف الشاعر بالمسافر المفكّر، والمتأمل، والجوّال الذي يقطع العالم في رحلة استقصاء، محوّلاً إياه إلى مشهد طبيعي ـ ريفي، أو مديني، بُغية معاينته. هذا ما كتبه ميكائيل فان ريس في دراسته التي اختتمت بها مختارات واسعة للشاعر حملت اسم «أصوات من ضوء تقسم العالم» والتي كانت المصدر لهذه لقصائد التي بين يدي القارئ. من هنا يمكن الحديث عن فلسفة إريكسون الشعرية الخاصة، لِما سلف، إضافة إلى ما تفصح عنه رؤيته وتصوره للقصيدة وللعملية الشعرية، عموماً، التي يتعرّف عليها القارئ في التعبير المباشر عنها، نثراً، عبر شهادة للشاعر، أو كما تتجسد هذه الفلسفة أو تتجلى، بداهةً، في المقام الأساس في شعره، من خلال أكثر من ملمح، وبما هو عليه من وفرة وتنوّع.
يقول إريكسون: «الحياة مع القصيدة، بالنسبة لي، تبدو كما لو أنها تتعلق برحلة منقطعة، على الرغم مما أشعر به الآن، من دهشة وبشيء من الاغتراب إزاء بعض أهواء الشباب، التي انتابتني. أتذكر صيرورة كل قصيدة: أين كنت عندما حصلت الرؤية الأولى، وأي الصور أو المشاهد والسيناريوهات برقت في ذهني خلال العمل على القصيدة. تتبلور الرموز الكبيرة في المشاهد الداخلية الخاصة بي، بشكل أكثر حدة بمرور السنين، ولذلك ليس من السهل تسميتها. إن الألفة المتزايدة مع هذه الرموز ليست على تلك الدرجة من القوة والرسوخ، بقدر ما هي دهشة تؤكد أن العالم اليومي، أيضاً، هو مكان حيث لم أوجد به البتّة».
المغني الجوّال
طائر نازف يغني على الغصن الأبيض
صورةٌ أحملها،
بينما أنا أبحث عن شيء ما، لا أعرف ما هو
ولا ما إذا كان قد وجد.
في قرارة جدولي
حيث كل شيء ينساب: عدَمي
والأرض التي تُصفّى بالنار،
ليخرج، ثمّ، من حضني وفمي وجمجمتي،
إلى أن تبرد الريح.
لم أعد أجدني في النهار
ولست مناسباً، حتى في الظلام.
هكذا أتابع خطوة خطوة،
طوال الوقت هذه الأغنية، بينما أنا
أبحث عن شيء آخر
يسقط، بعيداً، بين الكلمات
ويسافر في مظهر ظلّي
بسرعة خارج كلّ تصور.
أطلب شيئاً ما،
كالكلمات العصيّة،
كالأصوات، تبلى خارج فمي
تخفى عليّ، فأنهار
رافعاً ذراعيّ نحو الضوء، كالشجر.
الزمن
ليس ثمة سوى بيت وحيد
في كل البيوت
ليس ثمة سوى كتاب واحد
في كُلّ الكتب
كلَّ ما تحبّ
لا صنوَ له.
كلّ صيف
عبر المرج الداخلي،
في قلب كل صيف،
تلمس صيفك الوحيد
وفي الريح
ليس ثمة سوى ريح وحيدة
تتخلّل ضوءاً ساكناً.
حياة
أطلس مدن العالم العملاقة
المرئية في الليل
من ارتفاع سبعين ميلاً:
غُددٌ ضوئية
ثلوج سوداء
أشياء مجهرية
بين الأجساد، هناك في الأسفل
هنا في الداخل:
نسقط جميعاً
مرةً واحدة
في ثقب
يفتقد الاتجاه:
الليل له شكل النهار.
قصيدة حب إلى ستينا
ـ مقطعان ـ
مناظر تتدرج، بتفاوت
تتغيّر
عبر مساحات مرئية.
اشتعلَ الحقل،
الأجساد في البيت بين أشجار الصنوبر
باركتْ بعضها.
في ذاكرة الغابة، هناك أيضاً
أشجار صنوبر، قليلة لكن عالية، فوق كثبان الرمل
ثمّةَ بَدَوْنا
مساءً، أو ذات صباح.
**
نحيا، ثمّةَ
عبْر السطوع العظيم للّهب،
الذي يُدعى الوقت.
أجسادنا والبيت
هي حطب النار.
كل ما هو بشَري
ينحدر، في الحقيقة، من الخشب
كما أدركت.
أنت ترينني.
أنا أراكِ.
الريحُ تملأ الغابة التي لم تولد بعد.
الابن والأب
كنت في متناول اليد.
تذكرتَ الحرب، الأمطار المتوارية.
أنت لم تمت عبر الحقول،
لكني تغيرت
الشرايين لم تنضب
الأشياء كفّت عن الحركة
في السرعة اللاإنسانية.
أصوات ودخان خفيف
يطير
في أبهاء العالم.
الموج مرئي، غير مرئي.
الفراغ الخفي
في فرصة محادثة متأخرة.
الخبز، المثلوم
إضافة إلى الأضواء الوامضة.
القرار هو أن تتوارى
بين الأيام.
إنهم يأتون
أولئك الذين يأتون عبر الجسور
يمضون في اتجاه الجسور
نتحدث عن السفر،
لكن ما مِن مكان يكون مكاناً آخر
أولئك الذين يأتون عبر الجسور
تشتاق إليهم الوجوه، اشتياقها لطلوع الشمس
أولئك الذين يأتون، لكن دون معاودة البيت ثانيةً، أبداً
النهار
من باطن الجسد
يقدِم النهار، ناحيتي
دون أن يعرف من أكون.
عبر النوافذ غير المأهولة
يرى النهار الحياة
في ما شلّه الظلام.
كيف يلامس، في الحقيقة، كلَّ شيء:
ذاك الذي يكون حجراً
ذاك الذي يكون عشباً هنا في العالم،
وخشباً.
كلاهما، النهار والجسد
يجهل مَن أنا.
يمسّان بعضهما بعضاً
عندما أُفيق.
أرضيٌّ
ظننتُ أنها الحقيقة
هي التي حفّت* أومضَت وأدفأت الخد.
لكن لم يكن سوى المرج تحت الأشجار
في مملكة الشمس.
ظننتُ أنه كان الحلم
وقد حفّ، أومض وأدفأ الخد.
لكن لم يكن سوى المرج تحت الأشجار،
في مملكة الشمس على امتداد الطريق.
ظننتُ أنها الشيخوخة
وقد حفّت، أومضت وأدفأت الخد بغبار الطرقات البعيدة.
لكنه لم يكن سوى المرج تحت الأشجار
في مملكة الشمس على امتداد الطريق، حيث الضوء
أضحى غباراً وسقط في الظلمة والندى.
ظننتُ أنها كانت الطفولة
هي التي حفّت، أومضت، وأدفأت الخد
بغبار الطرقات البعيدة
تحت ظلام السماء، حيث الندى المتلألئ.
لكن لم يكن سوى المرج تحت الأشجار
في مملكة الشمس على امتداد الطريق،
حيث الضوء أصبح غباراً
وسقط في الظلام والندى في العشب.
ظننتُ أنني كنت أنا، أو أنت
هو الذي حفّ، أومضَ
وأدفأ الخد بغبار الطرقات البعيدة
تحت ظلام السماء، حيث
الندى المتلألئ في العشب، بين البيوت.
لكن لم يسكن سوى المرج تحت الأشجار
في مملكة الشمس.
* حفّ الشيء: سُمع له صوت كالذي يكون من أجنحة الطيور أو تلهّب النار أو مرور الريح في الشجر
اسمي شظية
أسمي شظية
مثلما هو وجهي، شظية.
اسمي قطعة من طين أحمر احترق، طويلاً
اسمي شهادة خَيال.
يسترخي فوق كتفيّ.
ذرة تراب، اسمي.
أتابع خطوي
عبر العشب غير الملوّث،
عبر عالم، حيث لا أحد وجِدَ بعد.
حولي يقف يومي
عالياً في كل جهاته.
أمد يديّ عبر عشب من ضوء
وألمس الأرض المحطّمة
بالاسم المحطَّم.
مدينة رياح تتجمع عالياً حولي،
الوجوه المغسولة في الظل تتحدث،
أصوات من ضوء تقسم العالم.