
شكيب كاظم
في سنة 1968، أصدرت دار الطليعة للطباعة والنشر في بيروت، الجزء الأول من مذكرات طالب مشتاق، أحد بناة العراق الحديث، الذي شغل مختلف الوظائف، على تباينها، ونجح في إدارتها كلها، وكسب مودة مرؤوسيه واحترامهم، فضلا عن ثقة رؤسائه، وقد صدر جزؤها الأول الذي يقع في ستمئة واثنتين وعشرين صفحة من الحجم الكبير، تحت عنوان «أوراق أيامي» وتضيء هذه الأوراق، نحو ستة عقود من تاريخ العراق الحديث
(1900- 1958) وسيردفها طالب مشتاق بالجزء الثاني من أوراق أيامه، التي تسرد المدة من سنة 1958، وحتى الأول من كانون الثاني/يناير1965.
وقد عجبت لقوة الشخصية والصدق مع الذات، ومع الآخرين وتقديم المساعدة لمن يحتاجها، حتى إن كان لا يعرفه، والنوازع الطيبة التي تمتع بها طالب مشتاق، المولود في مدينة الكاظمية سنة 1900، التي نشأ فيها وشب، والمتوفى سنة 1977، كما عجبت لهذه الوظائف التي تسنمها، وقد نجح في إدارتها كلها، على الرغم – كما قلت آنفا- من تباينها واختلافها، فقد عمل معلما في ناحية الهويدر في لواء ديالى سنة 1920، ثم كاتبا في نظارة (وزارة) المعارف بداية تأسيس الحكم الوطني في العراق، ثم يختاره وزير المعارف هبة الدين الشهرستاني سكرتيرا له، وقد ذاع صيت كفاءته وإخلاصه، ثم ينقل معلما إلى مدرسة تطبيقات دار المعلمين في بغداد، ويشيد بكفاءة وإخلاص ساطع الحصري، واسمه الحقيقي مصطفى ساطع، كما يقول مشتاق، الذي كان له فضل وضع الأسس الرصينة للتعليم في العراق، ويكفيه فخرا قراءته التي تعلمنا من خلالها أبجدية الحرف العربي (القراءة الخلدونية) مُطلقا عليها اسم نجله البكر (خلدون) وقد بلغ من حرص ساطع الحصري على العملية التعليمية والتربوية في العراق، إنه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا عاينها وأبدى رأيا فيها، حتى إنه يزور طالب لدى قيامه بالتدريس: «فاجأني الحصري يوماً بحضوره، وكنت منهمكاً آنئذ في إلقاء الدرس.. جلس الأستاذ على آخر مقعد في الصف، وعندما انتهى الدرس ذهب توا إلى غرفة المدير واستدعاني إليه، قال: لقد كنتَ موفقا جداً في اجتذاب الطلاب إليك، كانوا يصغون بانتباه وشوق وهذا أهم شيء يجب أن يسعى إليه كل معلم يطمح في النجاح بعمله».
ويوم يرغب طالب مشتاق في ترك الوظيفة الحكومية، كي يعمل في المحاماة، فضلا عن توقه للعمل في جريدة «الاستقلال» لصاحبها عبد الغفور البدري، وكانت من الصحف الوطنية، فإن ساطع الحصري – اعتزازا به – لا يقبل استقالته مؤكداً له: لا هذا غير ممكن.. إنك شاب وطني.. إن الخدمة في وزارة المعارف من أنبل الخدمات.. غير ناظرين إلى المنافع المادية، إننا نحاول تقليص عدد الموظفين الإنكليز».
ونظراً لكفاءته يرسل إلى البصرة مديرا لمعارف اللواء، وكانت هذه المديرية تشرف وقتذاك على ثلاثة ألوية عراقية هي: العمارة، والمنتفك، إضافة إلى البصرة، ويوم يقام حفل في مدرسة الراهبات للبنات في البصرة، يدعى لحضور الحفل، ولشد ما آذاه أن يجد الأعلام الفرنسية ترفرف في أروقة المدرسة، وليس ثمة علم عراقي، فيغضب وينادي على المديرة التي تمثل بين يديه، قائلا لها: إنك في بلد عربي، تحكمه حكومة عربية.. أما كان من اللياقة وحسن الأدب أن يكون العلم العراقي بين هذه الأعلام الفرنسية، وبعد أن رفرفت أعلام العراق، أمر طالب مشتاق ببدء الحفل!
لقد قرأت الكثير عن حركة رشيد عالي الكيلاني ومؤازريه الذين عرفوا بـ(المربع الذهبي) وهم الضباط الأربعة الكبار في الجيش العراقي وقتذاك، وخلافهم الناشب ضد الوصي على العرش العراقي الأمير عبد الإله بن علي، الذي اضطر لمغادرة بغداد، وقد تأزم الموقف بين الطرفين، نحو مدينة الديوانية، حيث مقر الفرقة الأولى، ومنها نحو البصرة أيام متصرفها صالح جبر، وأخيراً اللجوء إلى شرقي الأردن حيث عمه الأمير عبدالله. في مذكراته هذه ينقل لنا طالب مشتاق، الكثير مما لم يُعرَف، بسبب قربه من الحدث، والشخوص الفاعلة، فهو يكشف أن سبب نشوب الحرب بين القوات البريطانية التي كانت متمركزة في قاعدة (سن الذبان) (الحبانية حاليا) وجيشنا الباسل، أن الضباط هؤلاء: صلاح الدين الصباغ، ومحمود سلمان، وكامل شبيب، وفهمي سعيد، أمروا بتطويق القاعدة، من غير الرجوع إلى رئيس الوزراء رشيد عالي، ما عده البريطانيون عملا عدائيا، فعملوا على فك الطوق، ومواصلة الحرب ضد جيشنا. كما أن هؤلاء القادة الأربعة، وقد لمسوا قرب انهيار الدفاعات العراقية، إزاء التفوق التسليحي البريطاني، كانوا أول من غادر العراق نحو إيران نجاة بأنفسهم، وتركوا جيشنا من غير قيادة، ما ترك أسوأ الآثار في نفوس المقاتلين، وكذلك في نفس رشيد عالي، الذي حمّلهم نتائج هذه المعركة التي دفعوا جيشنا إليها دفعا، حتى أنه لم يكلمهم أبدا، على الرغم من اللقاءات العديدة التي جمعتهم أثناء انسحابهم إلى الأراضي الإيرانية. وهذه حقائق ينفرد طالب مشتاق بذكرها للتاريخ.
عصر 29 مايو/أيار 1941، وقد وصلته أخبار مقلقة عن الوضع العام في الجبهة، ذهب إلى دار رشيد عالي في الصليخ، فوجده يحرق بعض الأوراق، والاضطراب ظاهر على محياه قائلا له: إن أمل النجاح في الجبهة ضعيف لكننا سنقاوم، وسننقل مركز الحكومة إلى منصورية الجبل، ومع كل هذا الاضطراب يؤكد رشيد عالي على وزير عدليته الذي كان قد غادر بغداد نحو بعقوبة في طريقه نحو إيران، مع كل هذا الانهيار، يطلب وزير عدليته هاتفيا من بغداد مؤكداً أن (سلموا خزانة النقود إلى متصرف لواء ديالى عبد الحميد عبد المجيد مقابل وصل)! فهل ثمة أمانة أسمى من هذه الأمانة والحرص على المال العام، مال الناس؟!
قلت آنفا لقد عمل طالب مشتاق في وظائف عديدة، نجح فيها كلها، وأرى ذلك بسبب ذكائه وإخلاصه، فقد كان من أنجح مديري الثانوية المركزية في رصافة بغداد سنة 1927، التي كان لي شرف الدراسة فيها سنة 1960-1961 أيام مديرها الفاضل حسن العجيل، كما عمل في السلك الدبلوماسي، فشغل وظيفة قنصل العراق في بيروت، سنة 1937 فقدم خدمات جلى لمجاهدي فلسطين من غير الرجوع إلى المراجع العليا، فقد أصدر البريطانيون أيام انتدابهم على فلسطين، حكم الإعدام على المجاهد عبد القادر (موسى كاظم) الحسيني، الذي يدخل الأراضي اللبنانية متخفيا، الذي كان تحت الانتداب الفرنسي هو الآخر، وإن الفرنسيين يحاولون القبض عليه وتسليمه للبريطانيين، يزوره صديقه السوري أبو المهدي اليافي طالبا منه مساعدة الحسيني: «لم يكن في إمكاني أن أتردد برهة واحدة، أن أنقذ حياة عبد القادر، أن أخرج عن حدود صلاحياتي، والأنظمة والقوانين العراقية، في مدة لا تتجاوز ربع ساعة.. ناولته جواز سفره، بعدما ختمته بختم القنصلية ووقعت عليه.. ثم اتصلت ببعض شركات النقل في دمشق لتسهيل سفره، وبعد يومين اثنين كان عبد القادر الحسيني أو (محمد عبد اللطيف) يطوف شوارع بغداد». وفي تلك الأيام يزوره الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس الهيئة العربية العليا لفلسطين، قادما متخفيا من بلده، وكان يروم الذهاب إلى العراق، مثابة العرب، راجيا تزويده بتأشيرة دخول للأراضي العراقية، باسم مستعار، فلم يكتف الوطني العراقي الشهم طالب مشتاق بمنحه هذه السمة، بل سلمه جواز سفر عراقي وباسم مستعار، وبعد أيام أذيع نبأ وصول المفتي إلى العراق، فكان لوصوله دوي صاخب في المحافل السياسية، فكانت هذه الأمور سببا في فصله من وزارة الخارجية.
لقد قدم طالب مشتاق خدمات جلى لأهلنا في فلسطين، يوم ذهب إلى هناك قنصلا عاماً للعراق في فلسطين وشرقي الأردن، فذاع صيته الطيب في تلك الأرجاء، ووصل إلى آل شومان الكرام، الذي يقرر عبد الحميد شومان المدير العام للبنك العربي في القدس العربية، فتح فرع للبنك في بغداد، يعهد إلى طالب أمر إدارته.
يحدث أمر جدير بالتدوين والتنويه، كي نذكر نزاهة أولئك الناس، وحرصهم على مال الناس، يحتاج رئيس الوزراء المخضرم نوري السعيد إلى مبلغ ستة آلاف دينار، فيهاتف بذلك طالب مشتاق، فيتفق الرجلان على الالتقاء في دارة السعيد عصرا قائلا لطالب: إنني في حاجة شديدة إلى ستة آلاف دينار، ومستعد لرهن أسهمي في معمل الغزل والنسيج لقاء تسلم المبلغ، فهل في إمكانك أن تدبر ذلك في البنك العربي؟ يرجوه طالب مراجعة البنك في اليوم التالي لإجراء ما يلزم! طالب مشتاق – على الرغم من خلافه سياسياً مع السعيد – يرى أن من الإنصاف أن يذكر أن تصرفات نوري السعيد المرحوم، في تسديد هذا القرض كانت دقيقة وسليمة للغاية، فالأقساط سُددَت في مواعيدها، والفوائد دفعت عند استحقاقها».
أواخر أيام العهد الملكي، يسافر طالب وثلة من رجالات العراق: محمد حديد، وحسين جميل، وفائق السامرائي، وصديق شنشل، وهديب الحاج حمود، وعبد الوهاب محمود، وقاسم حسن وآخرون، لحضور جلسات مؤتمر التضامن الآسيوي الافريقي، ولأنه كان يحب الرئيس جمال عبد الناصر، توصيه ابنته الصغيرة: بابا إذا قابلت جمال قبله نيابة عني، ويلبي رغبة ابنته عند اللقاء بالرئيس، وتكون تلك المعانقة حديث الصحافة، ونشرت «الأهرام» صورته محتضنا الرئيس ومعانقا إياه، ما أوغر عليه صدر السلطة العراقية، حتى إذا التقيا بعد أشهر من هذه الحادثة، يسأله السعيد.
– يقال إنك عانقت جمالا فهل هذا صحيح؟!
وبما عرف عن طالب مشتاق من صدع بالحقيقة، وما عرف عن تلك الأيام من حرية الرأي والتعبير عالية، أجابه مبتسما.
– والله صحيح يا باشا.
يحدث أن يصدر أمر تحر على غرفة ابنه الشيوعي باسم، غرفة باسم فقط، فهو المعني، أما بقية غرف الدار فلا شأن لهم بها، فيختفي باسم ويقرر المغادرة نحو سوريا، يهاتفه بهجت العطية مدير التحقيقات الجنائية، مديرية الأمن العام في تلك الأيام، يهاتف بهجت طالب، أن يأتي باسم إلى المديرية لإجراء تحقيق بسيط، ولنقف عند هذه الحادثة مليا، تجمع سهرة بين وزير الداخلية سعيد القزاز، وطالب مشتاق، فيسأله رأيه في طلب بهجت العطية، فيطلب منه القزاز أن يستمهله حتى الغد ليدرس الأمر، وفي اليوم التالي، قال طالب: واجهني في النادي أيضا وقال لي: لا أوصيك بتسليمه فإن عليه قضايا شيوعية عديدة.. إنني ما أزال أشعر بالمنة لسعيد قزاز المرحوم، فإن عمله هذا كان دليلاً على قوة صداقته لي فضلا عن حسن طويته ونبل أخلاقه».
تقرأ هذه الذكريات التي دونها طالب مشتاق، فتقف عند لقطات رائعة لهؤلاء البناة الأوائل للدولة العراقية الحديثة، التي انتكست يا للأسف.
طالب يصرخ لأن المدرسة لم ترفع علم العراق في باحتها، وهذا ساطع الحصري يقدم خدمات جليلة للتعليم في العراق، ورشيد عالي، يأمر بتسليم خزينة الدولة إلى متصرف لواء ديالى، قبل أن يغادر العاصمة، وهذا نوري السعيد يحتاج مالا، فيذهب إلى بنك أهلي مقترضا، وما ذهب إلى مصرف حكومي، كي يمنع غائلة الاتهام عن نفسه، وهذا وزير الداخلية سعيد القزاز، ينصح طالبا أن لا يسلم ابنه باسما إلى التحقيقات، فما أجدر الأجيال الشابة أن تقرأ هذه المدونات كي تطلع وتتأثر و…
كاتب عراقي