التناقضات الاجتماعية في مجموعة «ظل في الضباب»

2023-01-08

موسى إبراهيم أبو رياش

صدرت المجموعة القصصية «ظل في الضباب» للقاص الأردني توفيق استيته، عن وزارة الثقافة الأردنية، ضمن سلسة سرد وشعر عام 2021، في 144 صفحة. وتتضمن أربعا وخمسين قصة قصيرة وقصة قصيرة جدا. أهداها استيته لصديقه المرحوم القاص والفنان أحمد القزلي، الذي توفي نهاية عام 2019. وقد تنوعت موضوعاتها بين الحرب والإرهاب، والفقر والحرمان، والغنى والبطر، الحب والخيانة، العقوق واليتم والثكل، الكتابة والكتاب، وغيرها. وتتناول هذه المقالة التناقضات الاجتماعية في بعض قصص هذه المجموعة.

حسرة وفرحة

في قصة «الصبر خبزها اليومي» تتحمل مسؤولية إخوتها بعد وفاة والدتها، ومسؤولية أخوتها من زوجة الأب أيضا، تقوم بكل أعمال المنزل والرعاية بصبر، تتعاظم جراحها وهي ترى بنات جيلها دخلن الجامعة وتخرجن والتحقن بالأعمال المختلفة وتزوجن، أما هي فقد عزف الرجال عن خطبتها «لأن أباها يغالي في شروطه وطلباته، وهو في حقيقة الأمر لا ينوي التفريط بها بعد أن اعتمد عليها في جل شؤونه». وهو موقف ظالم من أب لا يشعر بابنته، ويضحي بها من أجل خدمته وأطفاله، ولا يكتفي بهذا القدر من الظلم، بل يدخل عليها ذات مساء، ليخبرها بخبر سعيد، «فتزرع ابتسامة يخالطها الحياء على وجنتيها، وهي تنتظر أن يسترسل والدها في حديثه ويفض بكارة المفاجأة المنتظرة» وتأتي اللطمة القاسية؛ إذ يطلب منها أن ترافق أختها إلى السوق لتجهيزها للزفاف، فقد طلبها ابن عمها ووافق، أي قسوة هذه أن يطلب من الأخت الكبرى التي منعها من الزواج أن تجهز أختها الصغرى، ما أصعبها من مشاعر تتلاطم في صدرها فتجتمع الفرحة لأختها والحسرة على نفسها الضائعة التي لا يرأف بها أحد.

لا مبالاة

يتدثر المسؤول بمعطفه الشتوي في قصة «زيارة خاطفة» ويحاول تفادي الوحل والطين وهو يتفقد أحوال من داهمتهم السيول؛ «وجوه ترتعد فرائصها بردا، وأجساد لا تجد ما يقيها لسعات البرد، وبيوت تشرع أبوابها للريح، وآمال تلوكها قلة ذات اليد..» لكن المسؤول اللامسؤول أشار لأحد مساعديه أن يدون ملاحظات المتضررين، «وأنهى لقاءه على عجل بابتسامة صفراء للكاميرا، وهرع نحو المركبة مسرعا تاركا للريح وعوده وأطفالا منكوبين». إنه المسؤول المتبجح الذي يأتي كارها متأففا لأجل عيون الكاميرا، ولا يلقي بالا للواقعين في المشكلة ولا لمشاعرهم، بل لا يشعر بوجودهم أساسا، ومسؤول كهذا لن يكون الحل على يديه، فالبدايات تشي بالنهايات، وما أكثر المشكلات التي يعاني منها الوطن، يكلف بحلها مسؤولون لا يصلحون لشيء، ولا يهتمون بشيء، وكل تصريحاتهم العرمرمية لأجل الكاميرا والخبر الصحافي العاجل. في قصة «لا مبالاة» يتكدس ثمانية من الأولاد في غرفة واحدة، يتصارخون ويتضاربون، والأم مشغولة بالغسيل في المطبخ، بينما «يجلس الأب في الغرفة المجاورة وهو يهم بالإجهاز على طبق من المكسرات وزجاجة مشروبات غازية مندمجا بمشاهدة فيلمه المفضل». في وصف لحال كثير من الأسر التي يعتبر الأب نفسه الملك المتوج، الذي له حق الراحة والاستمتاع، أما شؤون البيت ومشاكله فمن مسؤولية الأم وحدها. وهذا ينم عن جهل وعمى ولا مبالاة، وعدم الشعور بالمسؤولية والتشاركية في تربية الأولاد ورعايتهم.

في حضرة دفن ميت في قصة «حوارات» ينشغل الحضور بشؤونهم ولا يأبهون بالميت وأهله، فأحدهم يتصل يأمر بشراء أسهم بكميات كبيرة، وثان يؤكد لرفيقه أنه حسم أمره وسيترشح للانتخابات المقبلة، وكهل يرد على اتصال من البيت يطلب أن ينتظروه لتناول الغداء معا، وتتعالى ضحكة يلجمها صاحبها مسرعا، وشاب يتفادى أحد أقاربه كي لا يسلم عليه، بينما الميت «يصرخ في صمته: تبا لكم، أهيلوا التراب سريعا، فقد اشتقت لداري الجديدة». وهذه الظاهرة مألوفة في المقابر وبيوت العزاء، إذ ينشغل معظم الحضور بأمور بعيدة عن واجب المواساة والمشاركة الحقيقية، والإحساس برهبة الموت وعظيم سطوته، فالكل منشغل بدنياه كأن الموت الماثل أمامه لن يقربه على الإطلاق.

صور متناقضة

في قصة «معايير مزدوجة» بعدما أنهى نزوته مع امرأة عابرة، سمع جلبة وصراخا، فأسرع ووجد جمعا من أقاربه ينهالون ضربا على فتاة بتهمة أنها لطخت شرف العائلة، فتناول سكينا، «ومسح بقايا أحمر الشفاه عن قميصه واقتحم ساحة الوغى». إنه التناقض العجيب الذي يبيح لنفسه أن يقترف المحرمات، وينتهك الأعراض، لكنه يسارع لغرس سكين في صدر فتاة لم تثبت تهمتها بعد، وتؤخذ بالظن. إنه المجتمع الذي لا يرى إعوجاجه البين، لكنه يرى القشة في عين الغير!

تحاول المرأة في قصة «دموع» إلهاء طفلها الجائع ببقايا حليب في زجاجته، لكنه يلفظها ودموعه تتدفق، وعلى مقربة منهما في الحديقة، تبكي فتاة بحرقة، ثم «تمسح دموعها وتشرع بإزالة ما علق على وجهها من مساحيق سالت من غزارة الدموع وتهم بإصلاح زينتها التي أتلفها البكاء على ظفرها المكسور». وهي مفارقة لافتة؛ فهناك من يبكي جوعا وحرمانا، وهناك من يبكي بطرا ودلعا، وشتان شتان بينهما.

صورتان متناقضتان في قصة «صورة»؛ طفلة وقطتها الصغيرة تمرح وتضحك وتجري بين الورد، وتحضر أمها وسط حراسة للعب معها، وفي المقابل كهل يجمع العلب المعدنية من حاوية القمامة، فيما ينقض طفله على بقايا وجبة تركها أحدهم. إنه الترف مقابل الفقر، والرغد مقابل الشقاء، والسعادة مقابل التعاسة، وو… في تناقضات لن تنتهي ما دامت الإنسانية غائبة، والتكافل مفقود، والجدران عالية بين طبقات الشعب.

في قصة «طقوس» مقارنة قاسية بين فتيات مترفات يحتفلن بعيد ميلاد إحداهن في قاعة وسط الثلوج التي تغطي مناطق العاصمة، وفي المقابل، وعلى مقربة، أسرة فقيرة في كوخ من الصفيح تعارك البرد بملابس صفيقة وأغصان مبتلة لا تشتعل، وأمعاء خاوية، وطفل صغير يكاد يتجمد بردا، ورضيعة تخبو أنفاسها. يشتد الرقص في القاعة بينما يتسرب الماء إلى الأكواخ وسط عجز الأم وقلة حيلتها. تطفأ أنوار حفل الميلاد ابتهاجا وصخبا، بينما يتوقف نبض الرضيعة «فيما تدق عقارب الساعة مدشنة سنة جديدة من حياة فتاة ولدت وفي فمها ملعقة من ذهب». وهي قصة لا تختلف في جوهرها عن قصة «صورة» سابقة الذكر، تأكيدا للبون الشاسع بين الطبقات، وانعدام الشعور بالإنسانية.

وبعد؛ فإن مجموعة «ظل في الضباب» لتوفيق استيته، ذات مضامين إنسانية واجتماعية عميقة، تسلط الضوء بقوة على بؤر مؤلمة، وظواهر خطيرة، وعلاقات زائفة، وتناقضات صارخة، تؤكد التزام الكاتب بهموم مجتمعه ومشكلاته، وإحساسه بآلام الناس ومعاناتهم ومشكلاتهم. وتبشر قصص المجموعة بولادة صوت قصصي جديد متمكن، نسج قصصا بحس إبداعي مميز، ولغة جميلة، وصياغة رائعة، وسرد ممتع، ومفارقات مدهشة.

كاتب أردني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي