«حقل ألغام» لخالد منصور: حيث النجاح في الحياة لا يُنجّي

2023-01-04

حسن داوود

قضى خليل المراكبي ليلته الأولى في المنصورة، التي عاد إليها بعد غياب سنوات، وهو يحاول فكّ شيفرة أصدقاء الطفولة. استعاد، من الحلم، ملامح الصبي فكري وهو ينادي عليه ليلعبا الكرة في ذلك الصيف الذي مات فيه تحت عجلات القطار.

«انهرس جسد فكري في كتل متفرّقة في لحظتين باعدتا بين قفزاته المرحة وهو يعبر قضبان السكة الحديد ومرور قطار البضاعة الصباحي على جسده». مات في العاشرة من عمره، ثم أودت البلهارسيا بسعيد قبل امتحان الشهادة الابتدائية. ثم تبعه الآخرون أعضاء فريق مدرسة السيدة عائشة الابتدائية لكرة القدم، حيث «تكفّل فيروس سي وسرطانات وحوادث طرق ببقية رفاق الكرة في الشارع، بينما تكفّلت سنوات المراهقة والنضج والاكتئاب بالباقين».

من بين رفاقه هؤلاء وحده، هو خليل المراكبي وصل إلى عمر الأربعين، لكنه بلغه متعبا مهشّما رغم ابتعاده عن المنصورة والقاهرة لسنوات قضاها متنقلا بين عواصم بلدان عديدة. لكن «الشياطين والكوابيس لم تختف من حياته» فكّر وهو في طريقه إلى السنترال بارك. هنا في القاهرة التي نزل فيها أولا، بعد سنوات غيابه العشر، لم يرَ إلا العتق والفوضى، اللذين ازدادا كثيرا عما كان يعرفه. بالتفصيل كان يصف التغيّرات تلك، وبالملاحظة الدقيقة لذلك التحول المتراجع نحو التلاشي، خاصة حين يتعلّق الوصف بالمفارق، وبما صار مختلفا عما كان عليه. الوصف ذاك، المحكم والآسر، يرسم فضاء الأجزاء الأولى من الرواية، وإن تسلل من ثناياه أصدقاء ومعارف من زمن تجارب عيش خليل شابا، بل رجلا عمل في مؤسسات دولية بعد تخرجه من الجامعة.

في اليوم الأول من وصوله التقى سناء الجارم، بالمصادفة، وكان على علاقة سابقة بها. سهرا معا في تلك الليلة وعادا إلى السرير متذكّرين، وإن بحد أدنى من الحنين، علاقتهما السابقة. ذلك اللقاء وما جرى فيه يفصح عن اختلاف الملتقيين عن المحيط الاجتماعي والثقافي الذي هما فيه. فسناء تشهر رغبتها بممارسة الجنس مع من يثيرها، دون ذلك التحفظ، الباقية جوانب كثيرة منه حتى في وعي المتحرّرات وسلوكهنّ. في أحد فصول الكتاب اللاحقة يرجع الروائي إلى سنوات سابقة من حياة سناء فنقرأ «إن بينها وبين العالم طبقات مثل طبقات الحجاب الذي (كانت) ترتديه على رأسها منذ الصف الثالث إعدادي؛ طبقة لأنها من الأقاليم، وطبقة لأنها امرأة، وطبقة لأنها من أسرة فقيرة، وطبقة لأنها – مدفوعةً بكل هذا دون وعي – صارت وجِلة وخجولة».

في هذا الإيجاز الذي يعرّف سناء لقارئها، كما في استشهادات سبقت، واستشهادات ستلحق تخصّ شخصيات أخرى، أجدني باذلا جهدا كي أتوقّف وأقفل المزدوجين عند كلمة ما أو جملة ما من نصّ الروائي خالد منصور. ذاك لشعوري، أو لرغبتي، بأن يُستكمل النص المقتطف إلى آخر كلمة فيه، وأن لا يُفوَّت شيء من قوته ودقّته. هكذا كان ممكنا لي أن أستمر في حكاية سناء الجارم، وكيف تحول بها خجلها إلى ما صارت إليه، امرأة مقتحِمة وهشة معا.

مجرى الرواية الحدثي يلاحق موت فريد عزّت مقتولا في سجنه. هو المجرى الأساس، حيث أن الشخصيات العديدة التي يتنقّل خليل المراكبي بينها تتصل، عبر معرفة ما أو حادثة ما، بتلك الجريمة. ما شغل خليل في رحلته إلى بلده هو التحقيق لمعرفة كيف قُتل فريد ومن هو قاتلُه. هو تحقيق من أجل المعرفة وحدها، لا من أجل الاقتصاص ولا من أجل ردّ فعل ما. كان ينبغي أن يعرف خليل ذلك ليروي سير أشخاص ومراكز توقيف وتعذيب وحوادث متفرّقة أدى فريد عزت أفعالا بطولية في بعضها. ربما كان خليل محتاجا لذلك، أيضا، لكيلا يظلّ ماضيه مهملا ومشوشا في رأسه، إذ أن أشياء كثيرة جمعت الصديقين معا أبرزها السجن في توقيفهما القسري وفي مستشفى الأمراض العقلية. في مكان ما من الرواية يذكر الراوي، المجهول دائما رغم تركه الكلام، في مواضع كثيرة من الرواية، لخليل نفسه، كيف أن هذا الأخير إنما كان يبحث عن نفسه، فيما هو يسائل كل من يلتقيهم عن تلك الجريمة.

هو تحقيق متصل ومتشعّب عن مقتل فريد عزّت وعن معاناة التعذيب الذي مورس عليه قبل مقتله. لكنه أيضا مجال لرواية عيش جيل كامل تخرّج أكثره من جامعات مصرية وأوروبية وأمريكية. من أجل ذلك تتعدّد الشخصيات وتُروى فصول من حياتها، ويجري التوقف عند سقوطها وفشلها. ما يصل إليه تحقيق خليل عن صديقه كان قد جرى الإلماح إليه، بل جرى ذكره أحيانا، في الصفحات السابقة على خاتمة الرواية. ثم إن قتل فريد لم يأت مفاجئا، هناك في الخاتمة، مثلما في الروايات ذات البعد التحقيقي. لم يكن القاتل إلا السجان العنيف المجنون، وقد لقي حتفه، مقتولا هو الآخر، بعد أشهر قليلة من ارتكابه جريمة فريد المروّعة.

لم يكن الروائي راغبا في الانتقام، ولا التحريض طالما أن من قتل لقي جزاء ما فعل. ألأرجح أن علينا أن نبحث عن تلك الرغبة، الرغبة في الانتقام أو الإدانة، والانكسار كما الفشل، في الكثير من الأحداث التي جرت في عالم الرواية المتعدد والغنيّ.

رواية خالد منصور «حقل ألغام» صدرت عن «المحروسة، في 286 صفحة- سنة 2021.

كاتب لبناني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي