إعادة إنتاج الواقع: ميتافيزيقيا في نصوص عادل مردان

2023-01-03

ناظم ناصر القريشي

«الخيال قوّة الطبيعة في عالم الكلمات»

والاس ستيفنز

من أين يأتي هذا الشعر، هذا الذي يولد ويتجدد في إبداعه الجمالي بحثا عن المثال، فهو دائماً مليء بالأسرار وهو دائماً سر الأسرار، في هاجس افتتانه بعدم اكتماله، والشاعر عادل مردان يضعنا في قصيدته (مواسمُ لحمارِ الأسفار) أمام تكوين لا نهائي للرؤيا، يعتمد على مخيلة المتلقي رغم أن القصيدة اكتملت في كلماتها، وإيقاعات الدهشة للمغامرة التشكيلية المجيدة تسري فيها، فتنفتح القصيدة على استعارات ميتافيزيقية، يحضر فيها فن التشكيل في بلاغة اللغة، فيتجاوز المعنى والشعر، ويضعنا أمام جمل بصرية، مفتوح على التأويل، تنتظم فيها الدراما والتراجيديا والإبهار بين الأسطورة والملحمة، كأن الزمن فيها يتلاشى في المدى:

أقفُ بقفازاتٍ سوداء

بينما إنليل يُحصي القرابين

يا لها من ظهيرة!

سنجد في هذا التشكيل الشعري الميتافيزيقي والقريب من الأسطورة، والأسطورة واسعة الخيال في الميثولوجيا، أن الشمس في كبد السماء، والهواء الساكن يتمدد وباتساع هائل بعيدا حتى يصبح كالمرايا المخادعة، معلنة عن حضور سر الماء (السراب) الذي لا يبوح عن كينونة سره الا للوهم، فتتشكل فيها موسيقى فضية، قيد التكوين، تعزفها أوركسترا الارتواء على مقامات عالية من الوهم، حيث تتماوج الموسيقى على أصابع البيانو وهي محتاره بين اللحن والتنغيم، بين النعومة والقساوة والقوة الصارمة، فالكلمات تحاكي الوجود وتحاكي حضور الفيزياء في الفرضية الميتافيزيقية، حيث سيسيطر التجريد على مساقط الضوء فتتلاشى الظلال ولا يبقى شيء، سوى السراب والقرابين والقفازات السوداء وإنليل بفكره المتعالي.

وفي المقطع التالي سنجد أن الحياة هنا صفر، منغلقه على ذاتها في هذا العالم السكوني، إنه هائل كالفراغ لا نمو فيه، والزمن فيه متكور على صمته، كأن الحياة مجرد هامش في ملهاة، وحتى الملهاة التي يخبرنا الشاعر عنها سنجد أنها تراجيديا:

في السوقِ القديم

إذ ينعتُهُ المألوفون زريبةَ الذباب

تبدأ الملهاة

لحظةَ يَمزحُ الباعة

وهكذا تتشكل قصيدة لدى الشاعر تتماهى مع لوحات جورجيو دي شيريكو، الذي رسم ذات مره لوحته (أغنية حب) مفتوحة على اتساعها، تحضر الدهشة معها، وهذا سر الافتتان لديه والتوق إلى رؤية الأساطير متجسدة في قصيدة، كفعل شعري في تشكيل وافر الإيحاء لدرجة الألم:

عندما يتوقّفُ قطارُ الأوهام

أكتُبْ عن المِحْنة

مقاطعَ تنبضُ بالحياة

وأدرْ ظهرَكَ للفنّ

وفي هذا المقطع العرضي الذي يستطيل به الوقت عبر مرور قطار الأوهام، ولا بد من أنه مر وقت طويل لمرور قطار الأوهام حتى يتوقف، أهو مشهد مفتوح على الندم، مسروق من الحياة بتعبير مذهل، كلوحة غير منجزة، تاه نسق ملامحها، في موسيقى خافتة عند الكتابة عن المحنة، فأدار الشاعر ظهره للفن. نتابع الشعر في القصيدة في المقطع التالي، بسرورِ من اهتدى إلى جوهره في عوالم لا تزال حتى الآن افتراضا في الميتافيزيقا، عبر هذا التحاور المذهل الذي أثار فينا الإحساس بالتعاطف، استطاع الشاعر أن يقبض على لحظة الاغتراب وأخضعها لإيقاع الشعر المتسامي، وجعلنا نتساءل ما الذي يتسرب إلى النفس بعد هذه الكلمات التي ستملأ حواسنا؟ فثمة لمسة حزن أو كآبة، كأن الغربة هي الإحساس الذي يشغل مشهدية هذا المقطع ذات البعد الدرامي، ويضفي عليه وجوداً كونياً، ربما هذا لم يخطر على بال فان كوخ وهو يرسم حقول القمح تحت الشمس، ولا إدوارد مونك في صرخته الأثيرية:

القّشةُ مستلقية على ظهرها

تحاورُ الفضاء:

لمْ أعُدْ قرويّةً يا نجم

ستحملُني الرّياحُ

إلى ضجيجِ المدن

هذا المقطع من القصيدة، يأتي الشعر منسجماً مع الطبيعة، طبيعته وطبيعة الشاعر، لكنه في مجاز سيريالي الذي اقترب منه الشاعر كثيراً:

بعد أن تعْتَعني السُّكْرُ

كنوزُ الطّبيعةِ في البيت

المِصباحُ يموء

الأريكةُ تنبح

هناك دائما لحظات متخيله مستعصية على الزمن، متوحد على الإبداع ومتجسدة في هيئة الأشياء، ربما ستتحقق أو هي على قيد التحقيق، في الصورة الشعرية أو ما يتيسر في التأويل، فكل لغة حقيقية تخلق صورة شعرية هي مفتتح للإبداع والخلق المدهش:

يمكنُ الاستعانةُ بمصرِفِ الحبّ

في الخريفِ المُتجَدّد

الأيّامُ تتساقط

من شجرة الزّمن

غداً الجُمُعَة

هِمَّةٌ عالية

بكَ رغبةٌ في حراثة المستقبل

هكذا استكمل الشاعر قصيدته (مواسم لحمار الأسفار) بمقاطع كالختم الاسطواني فهي توقيع على الحياة وبينها الشعر مرايا السراب يخضع كل شيء فيها لإنشاء تكوين متناغم، فالشاعر كأنه على جناح إشراقة، باهراً في تدوين الإبداع وتشكيل الفعل السينمائي المدهش في التكوين الشعري، وسنجد أن التكثيف لديه حد الاختزال بما يوازي فكرة التجريد في التشكيل، لكن الموسيقى المرافقة للصور الشعرية تبقى شاسعة في حضورها في انعكاسها في المعنى أو امتدادها في التأويل، كما رسم بيركلي شو لوحته (أغنية العصور القديمة) وجسد حضورها النغمي في الألوان أو أغنية من النجوم ـ لفيكتور تشيرنوفولينكو، وسنجد أن كل هذه الحياة في القصيدة يمكن أن تنتظم في تدفق واحد روحياً وميتافيزيقياً، فهي إنجاز رائع في الشعر.

هنا مقاطع من مواسمُ لحمارِ الأسفار:

أقفُ بقفازاتٍ سوداء

بينما إنليل يُحصي القرابين

يا لَها من ظهيرة!

في السّوقِ القديم

إذ ينعتُهُ المألوفون زريبةَ الذباب

تبدأ الملهاة

لحظةَ يَمزحُ الباعة

عندما يتوقّفُ قطارُ الأوهام

أكتُبْ عن المِحْنة

مقاطعَ تنبضُ بالحياة

وأدرْ ظهرَكَ للفنّ

أبوحُ لكِ في ليلِنا

وأنتِ تُضيئينَ الأغوار

أيّتُها النجمةُ

أمَا تتعبين؟

يَهفُو المُسنّونَ

إلى قاعِ المدينة

الزّمنُ يكتبُهُم

بسطورٍ غامضة

طريقٌ شائكةٌ بين النّخل

لا أرغبُ في الحقائب

هل أنا

حمارُ الأسفار؟

كاتب عراقي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي