في أثر الكلمة: محمد السيف وإعادة تقديم نجيب المانع

2023-01-02

مروة صلاح متولي

في كتابين صدرا مؤخراً عن دار جداول للنشر، يقوم الكاتب والناشر السعودي محمد بن عبد الله السيف، بإعادة تقديم نجيب المانع إلى القراء، بعد أن مضى في أثر كلماته متقفياً جامعاً، ومدققاً متحرياً للحق. صدر الكتاب الأول «ذكريات عُمر أكلته الحروف ـ النص الأصلي والكامل» في يوليو/ تموز 2022، ويقع في 296 صفحة من القطع المتوسط. ثم تلاه الكتاب الثاني «نجيب المانع ـ حياته وآثاره» الذي صدر في أغسطس/ آب 2022، ويقع في 735 صفحة من القطع الكبير. يحتوي الكتاب الأول على مذكرات نجيب المانع، التي كتبها ونشرها مسلسلة في صحيفة «الشرق الأوسط» في أواخر الثمانينيات. بينما يضم الكتاب الثاني المقالات الثقافية الفنية والأدبية، التي كتبها المانع في صحيفة «الشرق الأوسط» أثناء إقامته في لندن، ومقالات نشرها في عدد من الصحف والمجلات الأخرى. وألحق السيف بالكتابين مجموعة من الصور الفوتوغرافية، لنجيب المانع في أماكن مختلفة مع الأهل والأصدقاء، وصوراً لصفحات من المذكرات كما كانت تُنشر في الجريدة المطبوعة، بالإضافة إلى صورة الصفحة الأولى، من مسودة رواية «كل إنسان كوكب» بخط يد المانع نفسه.

للوهلة الأولى يظن القارئ أن محمد السيف، كان من أكثر المتابعين المخلصين لمقالات نجيب المانع، يقرأها أسبوعياً ويحتفظ بها وقت صدورها، وأنه كان يعرفه جيداً، والتقى به أكثر من مرة، أو تربطه به صلة ما. لكن السيف يخبر القراء في مقدمة كتاب «نجيب المانع ـ حياته وآثاره» أنه كان يوماً مثل بعضهم، أو الكثيرين منهم، لا يعرف نجيب المانع إلى أن سمع اسمه للمرة الأولى، من زميله الصحافي علي العميم، وكان هذا منذ عشرين سنة. ويقول السيف إنه على الرغم من متابعته لصحيفة «الشرق الأوسط» في الفترة الأخيرة من حياة نجيب المانع، قبل وفاته سنة 1991 عن خمسة وستين عاماً، إلا أنه لم ينتبه إليه، ولم يعرفه سوى من خلال حديث الكاتب علي العميم.

أثار الاسم فضول السيف ورغبته في اكتشاف نجيب المانع، والتعرف على كتاباته، وكان الاطلاع في البداية بدافع القراءة فقط، لا من أجل الكتابة عنه كما يقول. لكن يبدو أن هناك علاقةً ما تكونت بين السيف وكتابات المانع، ولا شك في ما حدث للسيف من إعجاب وانبهار، وانتباه لأهمية ما يقع بين يديه، وما يطالعه من هذه الكتابات، وإدراك لضرورة إحياء هذه المقالات والمذكرات من جديد، وجمْع كل منها في كتاب يحفظها، ويتيح للقارئ الاطلاع عليها كاملة موثوقة، والعودة إليها في أي وقت.

والحق أن تأمل صدور هذين الكتابين كفعل ثقافي محمود، يخلق في النفس مشاعر الإكبار، والثقة في عدم ضياع الكلمة وصونها من التشويه، وتجدد الإيمان بالكتابة الثقافية الناقدة فنياً وأدبياً، ودورها في إشاعة الجمال بين الناس، وإضاءة النفوس والعقول بنور الفنون والآداب، والفرح بالصحافة الثقافية الحقيقية والأصيلة، والحزن على تدهور هذه الصحافة في بعض البلدان العربية، وما يعتريها من ضعف وفتور. فنجيب المانع يُحيل القارئ إلى الصحافة العربية، وتحديداً الصحافة العربية المهاجرة في لندن، لأن معظم مقالاته بالإضافة إلى المذكرات، نُشرت للمرة الأولى في صحيفة «الشرق الأوسط» التي تصدر في لندن وعمل فيها المانع لسنوات طويلة. ويُحيله كذلك إلى الأقسام الثقافية في الصحف، التي تُعد حلقة الوصل بين الفنان والناقد والقارئ والعمل الفني نفسه، وتتيح فرصة الوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء، ليروا ويسمعوا، ويشعروا ويتذوقوا كل ما هو رائع ورفيع من فنون وآداب. وهذا يثير نقطة أخرى، هي اعتقاد البعض بوجود الثقافة في الكتب حصراً، مع الاستهانة أحياناً بالثقافة السمعية والمرئية، وثقافة الصحف، وأن من لا يقرأ كتباً مطبوعة لها أغلفة، مكتوب عليها أسماء صعبة النطق، لا يُعد مثقفاً. في حين أن للمقالات الصحافية الثقافية، دورا كبيرا في نشر الثقافة بشكل أسرع وصولاً إلى القارئ، وهل يُنسى دور مجلة «الرسالة» على سبيل المثال؟ التي صدرت في مصر سنة 1933، وفضل مقالاتها على القراء والكُتاب حتى اليوم، ولا تزال مجلداتها تقف شامخة على رفوف المكتبات الكبرى، وسط أهم الكتب والمراجع. ويؤكد إصدار هذين الكتابين أن جمع المقالات الثمينة للأقلام المحترمة، يكون ضرورياً، بعد أن أدت هذه المقالات مهمتها الأولى، عندما نُشرت في الصحف، وأن هذا الجمع يمنحها حياة جديدة، ويمنح القارئ فرصة الاستمتاع بقراءتها، وقد زادها مرور السنين عبقاً وتبلورت قيمتها، بعد أن استمتع بها من كانوا يطالعونها طازجة وقت نشرها، وينتظرونها أسبوعاً تلو الآخر، فالمقالات كتب منثورة، قد يجمعها أصحابها، وقد يأتي من بعدهم من يجمعها في كثير من العناية.

تدقيق كتابات المانع

جمع محمد السيف كلمات نجيب المانع، بأناة وروية وتدقيق كامل، بلا خدش أو تقطيع، أو حذف وإخفاء لبعض الكلمات والتعبيرات والجمل، فقدمها إلى القارئ جميلة رفيعة كما هي في الأصل، وقد أُنصفت وسَلمت من أي تشويه يفسد جمالها ورفعتها، فيستطيع القارئ أن يفهمها صحيحة، وأن يتذوق روعتها على أفضل وجه. ويبدو حرص محمد السيف على هذه الكلمات واضحاً، وهو يتحدث عن كتابين صدرا من قبل، عن دارين مختلفتين للنشر تناولتا مذكرات المانع، وقدمتاها مشوهة منقوصة، ما أخلّ بقيمتها ومحتواها وترابطها الفكري، وأضر أيضاً بأسلوب نجيب المانع في الكتابة، وصورة هذا الأسلوب في عين القارئ. وكان السيف محقاً في أن مثل هذه الكلمات الثمينة، يجب ألا تُعامل على هذا النحو، فمن ضمن ما قدم به السيف لكتاب «ذكريات عُمر أكلته الحروف ـ النص الأصلي والكامل» قوله: «لقد صدر الكتاب بشكل لا يليق بالكاتب نجيب المانع، ولا بسيرته وفكره وقلمه. ولم تُشر الدار لا من قريب ولا من بعيد إلى اسم الصحيفة التي ضمت هذه الذكريات، التي أكلتها الحروف وقضمت منها دار الرافدين!». وبعد هذا يشرح السيف للقارئ مظاهر العبث بكتابات المانع، ويُشهده على ما طالها من تشويه، فيتعجب القارئ بالفعل من هذا التساهل في التعامل مع الكلمة وقيمتها، ومع القارئ أيضاً الذي تُقدم له هذه الكلمة. هذا التعجب سيصاحب القارئ حتى بعد الانتهاء من قراءة مقدمة السيف، وطوال قراءة مذكرات المانع، لأن السيف وضع خطاً تحت الأسطر المحذوفة في نسخة دار الرافدين، وميّزها بلون غامق، وقد تصل هذه الأسطر إلى فقرات كاملة، فيتوقف القارئ عندها ويتساءل، كيف لهذه الفقرات أن تُحذف؟ ولماذا حذفت أصلاً؟ كما أن السيف يضع الكثير من الهوامش، التي تشير إلى استبدال بعض الكلمات وتغييرها في نسخة دار الرافدين، فيعود القارئ إلى الجملة، ويقرأها مع الكلمة الدخيلة على أسلوب المانع، فيجد أن الجملة تغير معناها أو صارت غير مفهومة. ويقول السيف إن نسخة دار الانتشار هي الأخرى، طالها الحذف والإخلال، والتداخل بين حلقات المذكرات، لكنها على الرغم من كل هذا، تظل أفضل حالاً مما نشرته دار الرافدين، ثم يقول عن الأديبة مي مظفر زميلة نجيب المانع وصديقته المهتمة بكتاباته، التي استاءت من نسخة دار الانتشار: «إنها لو قرأت كتاب الرافدين، لوقفت على قدميها في رمضاء الانتشار، هروباً من نار الرافدين».

تتبع السيرة

قدم السيف لكتاب «ذكريات عُمر أكلته الحروف – النص الأصلي والكامل» في 17 صفحة، بينما يحتوي كتاب «نجيب المانع ـ حياته وآثاره» على مقدمة قصيرة، يليها ما كتبه محمد السيف عن نجيب المانع، وما بذله من جهد في تدقيق سيرته وأصوله السعودية. يقع هذا الجزء في 60 صفحة تقريباً، وفيه تبدو مهارة السيف ككاتب متخصص في كتابة السير، إلى جانب أدواره الثقافية الأخرى في عالم الصحافة والنشر. هذا الجزء يساعد القارئ على فهم الكثير من الجوانب عن حياة نجيب المانع وبيئته وأصوله، كما يفكك اللبس الحاصل لدى البعض حول جنسيته، فهناك من يقول بسعوديته، وهناك من يقول بعراقيته، لكن السيف يوضح أن الأصول سعودية بحتة خالصة، وقديماً لأسباب معينة، كانت تجري هجرات من السعودية نحو العراق، وكانت عائلة المانع ضمن المهاجرين، فعاش نجيب في العراق لسنوات طويلة، قبل أن يغادره نهائياً بلا رجوع، وبعد ذلك استعاد جنسيته السعودية. يروي السيف حكاية هجرة الأسر النجدية إلى الزبير بأسلوب دقيق ممتع، يُعرف القارئ على هذا الجزء من التاريخ، الذي قد لا يعرفه البعض أو الكثيرين، ويحرص على تحديد أسماء العائلات وأصولها وفروعها، وتاريخ هجرتها ثم عودتها إلى السعودية الوطن الأم. يقول السيف: «وقد مثّلت الزبير حالة خاصة واستثنائية في هجرة النجديين، فإن كانوا قد هاجروا إلى بعض المدن مثل: بغداد، والبصرة، ودمشق، وحلب، ودير الزور، وغيرها، فإنهم في الزبير يُعدون هم أهلها ومؤسسوها، لذلك ظلت الزبير مدينة نجدية خالصة، سكاناً وحكاماً، في جنوب العراق. وقد مثّل أهل قرى إقليم سدير في وسط نجد، أكثرية في عدد الأسر التي استوطنت الزبير. ومن بين هذه الأسر التي تعود في منشئها إلى بلدة روضة سدير، أسرة المانع، التي من أبرز أبنائها وأعلاهم ذكراً شخصية هذا الكتاب: نجيب بن عبد الرحمن المانع». كما يتناول السيف جوانب أخرى عن حياة نجيب المانع الفكرية والمهنية، واعتمد في ذلك على بعض المراجع والمصادر المهمة، كالتواصل مع لبيد ابن نجيب المانع على سبيل المثال، وكتابات بعض الأصدقاء المقربين من المانع نفسه. منذ سنوات مرّ محمد السيف بتجربة اكتشاف نجيب المانع، ومتعة الاقتراب من كتاباته والدخول إلى عالمه الثقافي، وتتبع سيرته وتعمقه فيها. واليوم يحقق هذه المتعة للقراء الذين سيطالعون الكتابين الصادرين مؤخراً في طبعتيهما الأنيقتين.

الأسلوب الممتع

قد يتوجس البعض من كلمة «مذكرات» من فرط المبالغة في سرد الحكايات الشخصية العادية، التي لا تثير اهتمام القارئ ولا تعنيه في شيء. ويبدو أن نجيب المانع نفسه كان يتوجس من كلمة «مذكرات» أيضاً، فهو يصارح القراء بأنه دوّن هذه المذكرات نزولا عند رغبة عثمان العمير رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط» في ذلك الوقت، فيقول: «كان الاحتجاج على رغبته في أن أدون تجاربي الأدبية، هو القول بأنها لم تكن بالتجارب الفذة ولا الثرية ولا المجدية. فإذا به يقول: طيّب اكتب عن عدم كونها فذة ولا ثرية ولا مجدية، فجردني بذلك من أي سلاح يدفعني للاعتذار. وهأنذا أكتب عن عُمر أكلته الحروف، وقد وعد الأستاذ عثمان أنه سيتحمل هو النتائج، لو وُجدت هذه الذكريات غير جديرة بالقراءة، أو أحدثت آثاراً غير حميدة لدى قراء لهم شأنهم».

والحق أنه عندما يخلو المرء إلى هذا الكتاب، ويأخذه المانع لساعة أو ساعتين، لن يشعر بالملل وثقل الكلمات، أو أنه يستمع إلى متحدث ثقيل الظل، يدور حول نفسه في دنياها الصغيرة وفي إطارها الضيق، بل على العكس تماماً، سيجد القارئ في هذه المذكرات المتعة والخيال والمعرفة، والانفتاح على العالم شرقاً وغرباً، وسيقرأ عن رجل أنفق حياته بسخاء في سبيل الكتابة والترجمة. رجل عصامي الثقافة رغم أنه تعلم تعليماً جامعياً عالياً، ودرس في كلية الحقوق في بغداد، إلا أنه كوّن ثقافته بالإمكانيات التي كانت متاحة من حوله في ذلك الزمن، وعلّم نفسه اللغة الإنكليزية واللغة الفرنسية تعليماً ذاتياً، وصار مترجماً ممتازاً، وسيدهش القارئ عندما يرى كيف كانت الثقافة أساسية لدى هذا الجيل في صباه، وأن الأصدقاء كانوا يتسلون بالشعر في جلساتهم وأوقات فراغهم.

لا يخلق المانع الصور الخلابة عن حياته بغرض التباهي على القراء، ولا يبالغ في وصف المعاناة لينال تعاطفهم، فكانت الكتابة منضبطة إلى حد بعيد. وفي هذه المذكرات صفحات من الأدب الخالص، المستوفي شروطه وجوانبه، من حيث الأسلوب والخيال والمعاني، فهي ليست ذكريات فارغة هدفها تضخيم الأنا وإثبات الوجود الشخصي، بل هي تأملات وتجارب حياتية، تحفز على الجد والعمل وبذل الجهد، والعناية بالفنون والآداب، والثقافة والمعرفة. ويكتشف القارئ لهذه المذكرات أن المانع قصصي من طراز خاص، لا يجعل القارئ يضيع وإن انتقل به من موضوع إلى آخر، وأنه كان قارئاً جيداً للأشخاص، يتأملهم ويحللهم ويصفهم، ويرسمهم بالحروف أمام القارئ ليراهم بوضوح، وكان يلفت انتباهه دائماً تلك التغيرات التي تصيب الشخص مع مرور الزمن، لا التغيرات الشكلية، وإنما التغيرات النفسية والفكرية.

من متعة قراءة المذكرات ينتقل القارئ إلى متعة أخرى، يجدها في كتاب «نجيب المانع – حياته وآثاره» الذي يضم المقالات الثقافية الغنية بمواضيعها، التي تتناول الموسيقى الكلاسيكية والأوبرا والغناء العربي القديم، والفن التشكيلي والمسرح والسينما، والرواية والشعر والقصة. وفيها يطالع القارئ أسماء كبار الموسيقيين والمغنين، والرسامين والأدباء. كان المانع يتذوق آيات الفن الرفيع، ويشارك القراء في كل ما يتذوقه، لأنه كان يدرك أهمية دوره كناقد، ويريد أن يجعل هذا الذوق ذوقاً عاماً. فكان يخاطب القارئ العربي بلغته وتفكيره وشعوره، لا يخاطبه بلغة أجنبية الروح وإن كُتبت بحروف عربية، ولم يكن وجدانه إلا عربياً خالصاً، وإن تحدث كثيراً عن الفنون الغربية، والموسيقى الكلاسيكية والأوبرا. فلا يشعر القارئ بأن هذا الكاتب، كاتب بعيد عنه يعيش في عالمه الخاص، فهو صاحب كلمة أنيقة لبقة، واضحة المعنى والهدف، ظريفة أحياناً تُضحك القارئ بغير تصنّع، يُمتع القارئ في أحواله كلها، حين يرّقُ القلم أو يحتد غاضباً، بينما تتدفق لغته العربية رصينة سلسة، لا يكدر صفوها أي شيء. كان المانع يعمل مترجماً، ويتقن اللغة الإنكليزية واللغة الفرنسية، وتتوفر لديه غزارة المعرفة اللازمة والضرورية للمترجم، وسعة الاطلاع وعمقه أيضاً، بالإضافة إلى اتصاله بالشرق والغرب ثقافياً ومكانياً. وفي الكتاب الذي يضم المقالات وبين أروقته المنيرة، يجد القارئ غذاء الروح ولذة العقل، ودروساً في فنيّة كتابة المقال الثقافي، وبراعة الصياغة، وعمق التفكير والتناول، وجمال التعبير والوصف، وغنى الألفاظ والمعاني، فهي مقالات فنية وأدبية ثمينة، تُذيع في الناس نموذجاً للروح المشتعلة فكراً وثقافة، ضمّها كتاب يُعد مرجعاً مهماً للباحثين عن الزاد الجمالي والروحي والمعرفي.

كاتبة مصرية









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي