روزا ياسين حسن تروي متاهة المنفى: عن الوقوف في الوسط بين يأسين

2022-11-17

حسن داوود

المهاجرون في أوروبا ليسوا في المشهد التي تخيّلوا فيه أنفسهم وهم يغامرون بركوب البحر. «لم يجدوا هناك ما يسرّ في «القطارات المنتظمة كالساعات، ولا في الشوارع الجميلة النظيفة كرسوم الأطفال، ولا في ساحات العشّاق حيث يمارسون حبّهم المبارك على الملأ». في البداية، وهذا ما تمعن الرواية في سرد تفاصيله، لم يُستقبَلوا بما يليق بتلك الصورة المتخيّلة أو المنتظرَة. هناك في المخيّم، حيث جرى تجميعهم، كان الجوّ غاصّا ومحقونا وقابلا للانفجار في أيّ لحظة. ليس فقط بسبب الاكتظاظ والحجز، بل لأنهم جميعا، على اختلاف البلدان التي قدموا منها، يعانون من صدمات الحروب وأهوالها. كما يعانون من ذلك الاختلاط الذي لم يعرفوه من قبل: «جميعنا يعاني الخوف وعدم الأمان، قادمون من ثقافات مختلفة ومتباينة، وينبغي أن نعيش مجبرين في مكان واحد».

تستغرق الحياة في المخيّم، الانتقالية بحسب ما ينبغي، الثلث الأول من الرواية. كما نتعرّف في تلك الصفحات، على شخصيات الرواية التي تفاجئنا باختلافها. لا في كونهم قد جاؤوا من بلدان متعددة هذه المرة، فمن تبقيهم الرواية حاضرين في سياق سردها هم السوريون أنفسهم، وإن توزّعت مواقفهم تبعا لعقائدهم وانتماءاتهم والمطارح التي قدموا منها. كما يذهب الاختلاف إلى أبعد من الخطوط العريضة للجماعات قبل مجيئها إلى أوروبا، فنعيش، مثلا، مع محنة سرمد، المثليّ الذي يحصّل عيشه من زبائن بشعين وقساة. كما نعيش أيضا محنة الرسام المنتقل إلى عالم لا يعرف شيئا من عاداته ومن المداخل الموصلة إلى مجتمعه الفني. كما سنتعرف على شخصيات مثل الدكتور سعيد اللومي، الذي اعتاد الإقامة والتكيف في هامبورغ (حيث تجري أحداث الرواية ووقائعها) والذي، بالنظر إلى خبرته، بات قادرا على أن يكون براغماتيكيا وبانيا لأحد مساجد المدينة. وفي الرواية نقرأ عن العاشقين هديل وميلاد، ثم عن ميلاد وكندة، وناريمان وابنها عمر الذي أخذه الحنين إلى سوريا إلى أن يلبث معظم وقته في الجامع، مبتعدا عن أمه المغالية في تحرّرها بحسبه.

كثيرون هم، تمتلئ بهم الرواية إلى حدّ أن أحدهم يبدو مزاحما الآخرين من أجل توسيع حيّزه. لكنهم، رغم كثرتهم، نجحوا في صنع مسرحهم الواسع.

«في الحقيقة لم أعرف بلدي حقيقة إلا في المنفى. كمّ الشخصيات والأمزجة والحكايات والتناقضات التي رأيتها من أهل بلدي، لم أكن أتخيّل أنها موجودة قبلا». هكذا يصف أحد أولئك المهاجرين أبناء بلده في مغتربهم، بدوا له كثيرين، عددا ونماذج، ومختلفين ويصعب فهمهم، مع أنهم، إن كانوا هناك في بلدهم، كانوا جاهلين ببعضهم بعضا: «سألني شاب من دير الزور إن كان العلويون ينكحون بناتهم قبل الزواج» يقول آخر مستهجنا كيف أن الخرافات التي كانت حاضرة هناك ما زالت حاضرة هنا. إنهم في الوسط بين مكانين كل منهما يطردهم على طريقته. وعلى الرغم من تنازع بعضهم على قاعدة سابقة على مجيئهم إلى ألمانيا، كما هو الخلاف بين يحيى ورودي عمو على سوريّةِ عفرين أو كرديّتها، إلى أن تذكّر سوريا، من قبل المختلفَيْن، يأتي مشوبا بالشعور بظلمها. كان ينبغي الرجوع إلى زمن حنين افتراضي كي يكون التذكّر سلسا وصافيا، كأن يعود المتذكّر لسوريا إلى زمن ما قبل حربها، حيث الحارة والبائع ودكانه والحي المتوادّون أهله. لم يعد ذاك الحي موجودا. حلّت محلّه صدمات الحرب وانقساماتها وتمزيقها للجغرافيا إلى مناطق متعادية.

أما في المكان الآخر، في هامبورغ، فالمهاجرون يعيشون على هامش الحياة، ذلك النسيج المتألّف من تداخل البشر والصانع لروح المدينة، هل سيتبدّل مع مقدمِنا إليها. هل يمكن أن نكون ذات يوم جزءا من الروح؟

في فصول الكتاب الثلاثة، أو أيامه الثلاثة، ما دام أن الرواية مقسّمة على ثلاثة أيام غير متعاقبة، إذ تفصل بين أحدها والآخر مدَدٌ وأحداث غيّرت الشخصيات، رجالا ونساء، يظهر المنفى كونه متاهة لا يعرف الداخل فيها كيف هي طريق التقدّم، وكيف هي طريق الرجوع. «أنا يا إليانور أحسّ بأني فأر في قفص.. أو ما اسمه هذا الحيوان الصغير الذي يشبه الفأر. هامستر، كأني هامستر أدور في دولاب وسط قفص ضيّق يخنقني» يقول يحيى، معبّرا عن حال الآخرين كما عن حاله هو. ذاك أنه، كدارس للقانون، عليه ليعيش أن يواظب على تعلّم مهنة لا صلة لها بما صاغ شخصيته، كأن يصير بائعا لسلع لا يفهمها.

الهامستر، مثله مثل الآخرين الذين نقلت الرواية مشاهد من حياتهم، أو من يأسهم، في تلك المدينة الألمانية. كثيرون هم، تمتلئ بهم الرواية إلى حدّ أن أحدهم يبدو مزاحما الآخرين من أجل توسيع حيّزه. لكنهم، رغم كثرتهم، نجحوا في صنع مسرحهم الواسع. هم جعلوا يختطفون الكلام من بعضهم بعضا، يسرع المتكلّم منهم إلى البدء بمجرد أن يشعر بأن مَن سبقه يكاد يتوقّف عن الكلام. لا راوية واحد في الرواية.. كلهم رواتها، وكل منهم يبدأ الكلام، جارّا الرواية إليه، دون أن يستأذن أحدا، ودون أن يرفع يده ليقول إن الدور الآن هو لي.

ببراعة كانت تنقّل الكاتبة رواتها، بل أبطالها، كي يتزاحموا، لكن ليؤلّفوا مع ذلك صوتهم المأساوي الذي أعلنت عن وجهته في مقدمة الكتاب الصغيرة.

«بحثا عن كرة الصوف – ثلاثة أيام من متاهة المنفى» رواية روزا ياسين حسن صدرت عن دار رياض الريس للنشر والتوزيع في 286 صفحة – سنة 2022.

كاتب لبناني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي