«طفولتي حتى الآن» لإبراهيم نصر الله: الإنسان والكلمات… وأكثر من ذلك!

2022-11-08

رامي أبو شهاب

من الصعب أن تكتب عن العمل الذي صدر مؤخراً للروائي والشاعر إبراهيم نصر الله بعنوان «طفولتي حتى الآن» دون أن تسكنك شخصيات العمل السردية، ومناخاته التي تجعل من النص أكثر من مجرد لغة، إنما يتجاوز ذلك ليكون خطاباً في الإنسان بمعناه المتعدد والمطلق.

ولعل هذا الكتاب يعد من الأعمال القليلة التي يبدو فيها إبراهيم نصر الله في بؤرة الشفافية على مستوى الذات، فنشعر بأن السرد تتحرر من حيل الكتابة، وصناعتها على الرغم من توفرها على مستوى السرد والإزاحات الزمنية، كما تضمين غير شكل في التعبير عن كيانات النص، التي تتواشج في إطار يتردد بين الذاتي والكلي/ الجمعي.

تدفق الذاكرة

يتميز الكتاب بالتدفق السردي على مستوى الخطاب، غير أن هذا لم يخف على عمق النص الذي لا يمكن لأي قارئ أن يخطئ سياقية كتابته، حيث تمكن المؤلف من إدراك المسافة الكافية كي ينظر إلى الماضي، ويراه من بعيد، فيرصد مفاصله عبر ما يمكن أن نطلق عليه الصورة الكبرى، فتبدو الأشياء، وقد تحققت في معانيها الحقيقية.

بين الرواية والسيرة نواقع نصاً ينتمي إلى بينية الأجناس الأدبية، وكأن إبراهيم نصر الله في عدوله عن إجراء الحسم يتخفف من تبعيات الإحالة، ويترك القارئ ضمن أفقه الخاص، وتوقعه في ما يتعلق بمرجعيات النص الواقعية، وما يكمن فيها من خيال. وهكذا تتقاطر نماذج التلقي بين محاولة الفصل بين الذاتي والمتخيل، وهي الصيغة التي تقصدها إبراهيم نصر الله في روايته السيرية التي بدت ممتدة من الطفولة الأولى إلى الآن، أو إلى ما بعد ذلك!

يعتمد العمل مرجعية سيرة الكاتب باسمه الصريح، ومراحل حياته، بمن في ذلك عائلته وأصدقاؤه، كما النساء اللواتي عرفهن، فظهرن أشبه بنموذج رباعي يتخذ مبدأ الإحاطة أو أقرب إلى الأركان التي تقيم البناء، فثمة (الأم عائشة، ونور، وهالة – والشقيقة فدوى) وهي العناصر التي صاغت بدايات عالم نصر الله الذي ينحصر في مراحل طفولية لا متناهية، تستند إلى مقولة طفولتي حتى الآن، وهذا يتعزز في الصفحات الأخيرة من الكتاب، حين نقرأ من رسالة نور… ما يأتي: «كما أنني بدوت متأكدة من أننا لسنا بحاجة لإنسان نشيخ معه، بقدر ما نحن بحاجة لإنسان نبقى معه أطفالاً. هناك دائماً طمع بطفولة أخرى، طمع في ألا ننتهي». وعلى هذا يمكن أن نرى أن العنوان يكتسب رصيداً دلالياً، فالطفولة لم تُنجز، وما زالت مستمرة، ولعل هذا الإحساس بنفي النضج يحيل إلى أن الذات ما زالت تتملكها نزعات الدهشة، التي تعني الوقود الأنسب لمواجهة العالم، وعدم التوقف لما يحمله من خيبة علينا أن نواجهها.

ما وراء الرؤية

ثمة لدى إبراهيم نصر الله رؤية واضحة تتعالى على وقائع الموت والتهجير والشتات والخيبات المتتالية؛ ولهذا لا يمكن أن نفسر استهلال الرواية حول الشغف بالسفر، ولوحة الإعلانات للطائرات، كما المطار الذي يقيمه إبراهيم (الطفل) على تخوم المخيم، إلا بوصفه محاولة لتجاوز هذا الأفق الضيق… لا على مستوى الجغرافيا، لكن إلى ما هو أبعد من ذلك، ونعني التحليق إلى البعيد، وهو حلم يتشاركه عديد الشخصيات في الرواية التي ينتهي معظمها في أوطان الشتات المركب: بشير، ونبيل، وقاسم، والخال، وهالة… فلا جرم أن تتصيد إبراهيم نصر الله تلك الرؤى التي تتقاطع مع تكرار ثيمة الطيور في بعض أعماله، كي تحيل إلى الحرية، أو التحرر، لكن الأهم أنها تبدو ثيمة عالقة في الذات، إذ يبدو إبراهيم نصر الله في عمله هذا أقرب إلى ذاته من أي عمل آخر، وكأنه يضع حدود عوالمه في عمل استغرق أكثر من (500) صفحة، لكنها بدت أقرب إلى رحلة طائر يتقن التحليق. ربما يتورط القارئ في حب هذا العمل لأن إبراهيم نصر الله أتقن اصطياد ما في داخلنا من أحلام وخيبات، فهو يدرك أنها أقرب إلى نموذج وظيفي أو بنيوي تتشاركه الذوات الفلسطينية، وهو ما يشير إليه في غير موقع، حين يقول إن هذا الحلم أو ذاك يسكن وعي ملايين البشر، غير أن قيمة الكتابة تكمن في أنها تعيد تكوين العالم، ودونها لا يوجد عالم.

فواصل للحلم والتذكر

تتخذ الرواية تكوينها من تبويب يتقصد كل مرحلة من مراحل الطفولة، وتصل إلى سبع مراحل، وبينهما تبقى الذات أسيرة وعي الطفل الذي نلمح تطوره وإدراكه في كل مرحلة من مراحل النمو، فتبقى الشخصيات المحيطة به جزءاً من دعائم رؤيته للعالم، الذي يتشكل ضمن حدود مخيم الوحدات الذي يتعالى إبراهيم نصر الله في جعله مكاناً سردياً تتنازعه رؤى شعرية جمالية وإنسانية، وهي ميزة تجعل من أعمال إبراهيم نصر الله متفردة في قدرتها على التأريخ لمدينة، أو للمكان بصورة عامة، أضف إلى ذلك رسم حيوات الفلسطينيين، ولاسيما بعد النكبة، ونعني الجيل الذي ولد بعد ذلك كي يشهد النكسة، وحرب الكرامة، وأيلول الأسود، واجتياح بيروت، وغيرها من الأحداث التي عبرت هذا النص، لكنها مع ذلك تمكنت من إعادة تشكيل ذاكرة الجيل الثاني للمأساة أو الملهاة الفلسطينية، لكنها في الوقت نفسه لا تغادر الحقيقة بأنها ليس سوى هامش للمهجرين والمشتتين، غير أن ما يجعله مغايراً تلك الذوات التي تتشارك الحلم، وذاكرة الماضي، لكن الأهم المستقبل، كما نرى في شخصيات الأصدقاء أو نور، وغيرها.

لا يمكن أن نتجاهل أن الرواية على الرغم من هيمنة محورية الذات التي تمتص طاقة العمل نحو وعي واحد، كما قيم تفسير تختزلها ذات إبراهيم الطفل في مراحل تكونه، لكن هذا لم ينل من وهج الشخصيات الأخرى، الذي يبدو حاضراً ضمن تنسيق، وترتيب معينين، ونعني من حيث النظر إلى ذات إبراهيم بوصفها فراغاً أبيض لم تكن لتنال هذا الثراء لولا تلك الشخصيات التي يمكن أن نعيد ترتيبها تبعاً لمستوى تأثيرها وحضورها، ونعني نور، ومن ثم الأم عائشة، وهالة، والعمة، والخال.. وما يتبع ذلك من باقي الأصدقاء بما في ذلك المعلمين، كالأستاذين ربيع وسليم، على الرغم من سلبيتيهما.

إن الرواية أسيرة هذا الوعي، ونعني الطفل الذي يدرك أنه نتاج عالم معقد، وغير طبيعي، شأنه شأن أي فلسطيني، وهكذا تتقاطع مدارات العمل بين وعي الطفولة، وتطوره، كما الحب، والفقر، والتهجير، والكتابة، لكن الأهم كيف يتشكل الإبداع؟ وهي الصيغة التي سعى إبراهيم نصر الله إلى أن يختبرها أو أن يعلل كوامنها النفسية التي لا يمكن التيقن منها… كونها نتاج سياقات متداخلة، غير أن مركزية شخصية نور تبقى الأكثر تأثيراً، بالتوازي مع وعي طفولي حاد نتج عن ذلك الإدراك بأن الفلسطيني مقتلع لا يكمن في معنى الطبيعي، وهذا يفسر تكوين الفلسطيني في محاولته المستمرة لتجاوز تاريخية فقدان الوطن عبر البحث عن الذات؛ مما يفسر قيمة الأم في جعل التعليم وطناً آخر، كما إنكار الذات من لدن الأب، ومن ثم تعلم كيف يتخفف الإنسان من الأحلام الكبيرة المسكونة بالمادة، ومن ذلك حين اضطر إبراهيم للدراسة في معهد المعلمين، ومن ثم العمل في صحراء السعودية، وكأن جزئيات هذا الواقع أسهم في تشكيل رؤية وليس ذات إبراهيم نصر الله حسب، وإنما سائر الشخصيات، وهي تبحث عن صيغة لهذا العالم، غير أنها بقيت مسكونة في أحلامها الذاتية الصغيرة المتصلة بهويتها، والتزامها تجاه معنى الوجود الفلسطيني المشوه كما نعاينه في شخصية نور التي انضمت للمقاومة، كما انغماس الباقين في فعل يجعلهم على اتصال بفلسطين بصورة أو بأخرى، ومنهم شخصيات: المصري، والأصدقاء، ورجال المقاومة، والخال… لكن هذا لم يمنع من أن نرى تمثيلات السلطة، وما يكمن فيها من قهر لذوات كانت خطيئتها الوحيدة أنها كانت تبحث عن كرامتها، وحريتها فقط.

دلالة التكوين

يتحرك النموذج السردي متبعاً خطاً أفقياً، غير أننا لا ندرك أننا في كل مرحلة نتوجه إلى العمق، ولاسيما حين ندرك مآلات الحدث، وشيئاً فشيئاً تتضح معالم الشخصيات، تنضج، وتكتمل، وتتأطر في بعدها الدلالي عبر تقاطعها مع ذات إبراهيم، هكذا نقرأ سيرة إبداعية للذات الصغرى إبراهيم، وهي في وضع تأملي عميق يتأتى من لدن الذات الأخرى، ونعني إبراهيم نصر الله الذي يرى في الشعر والرواية والموسيقى والرسم عوالم بديلة أخرى تفوق ربما جمالاً ودهشة البلدان التي كتب أسماءها على لوحة حركة الطائرات، وهكذا يكون الخلاص أولاً في الكتابة على الدفاتر التي تزودها به نور، وهذا يتعمق عند البحث عن شعراء ما زالوا على قيد الحياة، ومنهم من يماثله في الاسم، ونعني إبراهيم طوقان، مما يتطلب إيجاد الشقيقة فدوى كي تكتمل الصورة.

تعتمد الرواية فواصل بين مراحل الطفولة، ونقصد تلك الرسائل المتبادلة بين إبراهيم ونور، فهي ترتسم في حدود مرحلة، حيث تعطل كل شيء، ونقصد زمن كورونا. هكذا يمتد الزمن في الرواية كي يصبح أداة للاستدعاء لقيمة الحدث، وأثره، كما القراءات الأولى لكتب شكلت منظوراً ينهض على ما تجلبه الكتب من فرح أو حزن، وهنا يسهم موظف مكتبة الأمانة في هذا التكوين، كما تسهم زيارة المخرج الفرنسي جان لوك غودار بشيء ما، كما الذهاب إلى السينما، ومن ثم كتابة النشيد الأول، ودور المخرجة في المعهد… هكذا تتوالى الأحداث والشخوص بما يرتبط بها من أثر..

هكذا تنطبع الأشياء على الوعي الذي استدرجه انسياب الزمن الذي احتاج إلى زمن آخر أو طارئ كي يوقف سيرورة الحياة بانشغالاتها، فتكون العزلة وما أنتجته، ونعني أزمنة جائحة كورونا التي أسهم فائض الزمن فيها باستعادة التفاصيل الدقيقة، أو تلك القابعة عميقاً في الذاكرة، بالتوازي مع منح تلك الأحداث القيم الدلالية، لكن الأهم العاطفية، من منطلق بأن هذا العمل يحفز التلقي بصورة أساسية عبر النموذج الإنساني، عبر توفر مناخات متعددة، تتصل بالحلم الذي لا يمكن أن يتحقق بسهولة كما جاء على لسان نور، التي تمارس وعي التلقي الأول لكل ما يكتبه إبراهيم، كما نقرأ في الرسالة الرابعة حين تعلق على قدرته على إنصاف الشخصيات.. فلا جرم أن تكون نور الفن الثامن الذي يُضاف إلى الفنون السبعة التي يعشقها نصر الله، ولكل فن سببه الخاص كما يذكر في صفحة (349) فرسائلها تبقى جزءاً من امتدادها على الرغم من بعدها فيزيائياً، غير أنها قريبة من الروح عبر كلماتها؛ ولهذا جاء في الرواية هذا النص الجميل، حيث يقول إبراهيم نصر الله: «ففي داخل الرسائل، دائماً، هناك بشر، عليك أن تكون حذراً، وأنت تلمس كلماتهم».

كاتب أردني فلسطيني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي