
عبد السلام دخان
الإنصات إلى متخيل السرد الروائي وولوج مداراته، هو محاولة للعيش في زمنها ووفق سنن أنساقها، الرواية لا تخون الحياة، بل تعمل على تأويلها وأنسنتها، ويمكننا وفق هذا المنظور أن نحدس الوجود والتباساته، وأن نحدس الكينونة وندرك الأفعال السردية من غير قدرتنا على تغيير المصائر، وبغية معرفة وفهم العمل السردي وتجنب سوء الفهم فإن الطريقة الأكثر جذرية هي الإصغاء بغية إفساح المجال لتأويل هذا المتن السردي الروائي لا بوصفه ممارسة تتوخى رصد القواعد التي تحكم النص السردي حسب، بل محاولة توسيع الفهم، وتجاوز الرؤية الأحادية المرتبط بالجانب الشكلي نحو الوجود الفعلي، أو الوجود الموضوعي المعبر عنه في الوعي السردي للرواية، وإدراك سلسلة الأنساق المشكلة لهذا المنجز بوصفه نسيجا من المرجعيات المتداخلة التي تكون في ما بينها النص السردي الروائي.
وتبعا لهذا المنظور يمكن عد الرواية أثرا مفتوحا وفق رؤية إمبرتو إيكو.
رواية «فك رقبة» لرضا تنافعت التي تقع في مساحة 488 صفحة من الحجم المتوسط، والمؤطرة منهجيا وفق قسمين، ولعل اختيار السارد أن يكون القسم الأول موسوما بالآية الكريمة «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ» مرده إدراج الآية الكريمة، فَكُّ رَقَبَةٍ، بوصفها العنوان الأساس للعمل السردي الروائي.
إن الذات منظورا إليها من زاوية أنساق وجودها ولبس علاقتها بالآخر، تكشف عن تصور معياري للوجود الإنساني ولنسق الغيرية المعبر عنه عبر التخييل السردي في المتن الروائي، ولا نقصد بالتخييل السردي التمثل الأرسطي لمفهوم المحاكاة، بل للتخييل في بعده الإبداعي بوصفه تمظهرا للنص الروائي ولأنساقه المختلفة، والتخييل السردي وفق هذه الرؤية يسمح بخلق الأحداث والوقائع، والرهان على الصياغة الفنية لرواية «فك رقبة» وصناعة ممكناتها عبر تمثيل سردي للذات وللغيرية. بيد أن سطوة الوصف في الرواية وتشييد تمظهرات نفسية كان الغرض منه تطويق تمثيل الذات، وجعل المتلقي يتجه إلى خلق تمثل لشخصية خلود وتفاعلها» النسبي» مع الشخصيات الأخرى. وسيتخذ هذا التمثيل مستويات ثلاثة:
ما هي سمات شخصية خلود، وميزاتها، هل هي متطابقة مع منظور السارد عبر ما يسميه بول ريكور بالهوية المتطابقة l’identité –idem، والرابط السردي بين الذات والآخر، والذي يسمح برصد تفاعل الذات وتماثلها مع منظورها ومحيطها وزمنها لتشكل وفق باراديغم العمل السردي الهوية السردية للرواية.
ويسمح الوعي السردي المركب بتجاوز الوعي المباشر لعلاقة الذات بالآخر، نحو رصد تفاعل الذات بالمحيط وبمختلف التحولات الاجتماعية والأخلاقية والنفسية.
يسمح المستوى الأول برصد المحكي السردي للرواية من خلال ما يمكن تسميته بباراديغم الحب وفق مساريين يتساوقان على امتداد زمن الرواية، مسار خلود ومعهود حياتها التعليمية والأسرية وعلاقتها بعمران، ومسار دنيا وعلاقتها بخلود من جهة ويونس من جهة أخرى.
ويسمح المستوى الثاني من رصد مسار الحكي السردي وأنساقه، وتصور الحبكة، حيث تتمظهر حياة خلود في المرحلة الثانوية واختلالات علاقتها بالأب، وصولا إلى المرحلة الجامعية، حيث نرصد تصدع علاقة دنيا بيونس بعد كشفها لحملها منه، ومطالبته بإجهاض الطفل، وهو الاختلال الذي أفضى إلى انتحار دنيا.
المستوى الثالث لا يرتبط بالأبعاد الدرامية للأحداث منذ رحيل أسرة خلود نحو المسكن الجديد بالحمرية حسب، لكنه يرتبط بذروة الحبكة السردية خاصة بعد وفاة والد خلود، لكنه يكشف الجانب الاجتماعي المسكوت عنه في العمل الروائي، الذي حمل الأب تهمة الاتجار في المخدرات، وجعل صورة دار نزار بن عودة تختل اجتماعيا، ويصبها التشقق من جراء مرض الأم وخلود، وما نتج عن ذلك من تداعيات اجتماعية ونفسية، رغم أن السارد حاول أن يحد من سطوة الألم عبر ظهور صديق لوالد خلود، الذي حمل لهم مبلغا مهما من المال كان قد اقترضه منه.
ويحقق هذا المستوى فاعلية سردية تسمح في التوجه نحو الفعل السردي وتوسيع نسيجه وأفقه الدلالي.
وتتحقق الهوية السردية في رواية «فك رقبة» عبر أنساق شخصيات الرواية وفاعلية حضورها في الزمن السردي، وتحققها الأنطولوجي في أمكنة مخصوصة، والسعي إلى تشكيل الحيوات بالرهان على الحبكة وعلى تمظهرات الأنساق الاجتماعية والأخلاقية الحاملة للانفعالات والعواطف والمواقف، ولمنعطفات الذات (انتقال خلود من التعليم الثانوي إلى الجامعي) وتمثيل الأحداث المرتبطة بهذه المنعطفات التي تصل ذروتها في دخول خلود المستشفى بعد وعكة صحية حادة وتعرفها على صديقة جديدة تعوض فراغ غياب صديقتها دنيا، وهذه الصداقة الجديدة تخلصها من الشعور بالفراغ، وتشيد تحبيكا سرديا جديدا يبلغ نهايته مع إعلان الشروع في زواج خلود.
إن السرد في رواية «فك رقبة» لرضا تنافعت مؤطر بمرجعيات معرفية وجمالية لا يقف عند تمجيد الحب، والمخيال الاجتماعي المرتبط بتمثيلاته، بل يدين اختلالات معهود الحياة، ويدين السلوك الاجتماعي الذي يبدد هذا الشعور الإنساني النبيل. ولذلك فإن هذه الروائية تصور الفعل الإنساني خارج التوصيف السوسيوثقافي، وتحصره في الثلاثي المهيمن المجسد في الذات، الوجدان، العقل. وربما ساهمت هذه المحددات وفق مرجعياتها الاجتماعية في غياب المنظور التاريخي للمدن والأحياء على نحو فاعل، واقتصار حضورها على ما تسرده الذات، وفق أحاسيسها ومنظورها. والحبكة السردية آلية لتمظهر الفعل الإنساني، وبيان أشكال تحققه السردي، وهي خطاطة تخييلية تسمح بتأليف «مجموعة من الملابسات والمقاصد والدوافع والخلاصات غير المرغوب فيها واللقاءات والشدائد والانفراجات والنجاح والفشل والسعادة». وعلى مستوى التحبيك فإن مجال الحكاية ومركزية الذات لم يسمح بانفتاح الرواية على ممكنات تخييلية أخرى، رغم أن الرواية عملت على توظيف مظاهر جزئية للحياة، وكشف أعطاب الذات خاصة وهي تتوظف محمولات الثقافة الإلكترونية وتطبيقات التواصل الاجتماعي.
رهان السارد على تجديل العلاقة بين الذات والآخر لم يكن مرده الانصهار المألوف بين الحبيب والمحبوب، بل تقديم رؤية مفادها أن الحب لا يتحقق إلا في ضوء وعي بتاريخ الذات وأفقها الاجتماعي والأخلاقي.
السارد على يقين تام بكل موضوعاته وممكنات الفعل السردي الموجه عبر سلطته فكريا وسلوكيا، وتم الاكتفاء بالطابع الرمزي الذي يحمله العديد من المقاطع الموسيقية المهيمنة على امتداد المتن الروائي، وهي مقاطع ذات مرجعيات ترتبط زمنيا بما تشكل بعيد منتصف القرن العشرين، وهذا يقودنا إلى التساؤل عن كيفية تشكل الذائقة الموسيقية لخلود، المنتمية زمنيا إلى الألفية الجديدة.
وتبعا لسياقات الرواية فإن الشخوص تتسم بفاعليتها السردية، وقدرتها على تكوين العوالم التي بدونها لا يستقيم السرد ولا يتطور، لأن الممارسة السردية بفاعليتها البلاغية تتوسط المسافة الكامنة بين الذات والعالم الخارجي. وهي تكشف في قدراتها التعبيرية عن مرجعياتها الفكرية، سواء منها الفردية أو الجمعية، ومن خلالها تتحقق الذاتية داخل الزمن السردي، كزمن مشكل لهوية السرد في الرواية. ومنتج للسنن الثقافية عبر ما يسميه أمبرتو أيكو في كتابه «العلامة: تحليل المفهوم وتاريخه» بالممارسة الإنسانية. ويتحقق المكان في رواية «فك رقبة «بوصفه طاقة تخييلية، مزية الانتماء المشترك، في منعطفاته تبدأ الحياة وإليها تؤوب. وثراء المكان لا يرتبط بثقله العاطفي حسب، بل بممكناته بوصفه كاشفا لصلة الوجود بالإنسان، وصلته بما تشكل في الماضي وما يعاد تشكيله عبر تخييل الذاكرة وهي تُمِدُّ الحياة بمنطلقاتٍ التفكير في آفاق رحبة. بيد أنه من الصعب معاودة كتابة تاريخ المكان كملحمة تشكلت في الماضي، لكونه ليس ميتافيزيقيا، ولا يخضع – في الآن نفسه – للتفسير العقلاني.
والتفكير في المواءمة يقودنا إلى رصد أنساق تمثيل الوعي وإشكال الحياة ومستويات التظهير والتنوع اللغوي المعبر عنه في الرواية، سواء في استعمال الدارجة المغربية، أو في سجال الأغاني، وهذا السجال ليس مرادفا لتعدد الأصوات، لأنه كان معنيا بكشف التنوع اللغوي عبر معجم يتطابق ومنظر السارد ويترجم الوعي الأسلوبي وخلق صلة بين متخيل الرواية والمرجع الواقعي (سجل أسماء الأحياء) عبر الحكي المجسد للحياة الاجتماعية في تحققها الزمني، وهو ما يعبر عنه بول ريكور بقوله: كل ما نحكيه يحدث في الزمن، ويستغرق زمنا ويجري زمنيا، وما يحدث في الزمن يمكن أن يحكى. ولعل كل سيرورة زمنية، لا يعترف لها بهذه الصفة إلا بمقدار ما هي قابلة للحكي بطريقة أو بأخرى. بتعبير بول ريكور، والرواية المنحدرة من الملحمة وفق تصور هيغل جنس أدبي غير مكتمل، بتعبير فلادامير كرينسي، ولعل هذا الأمر هو ما يفسر انفتاح الروائي رضا تنافعت على الموسيقى الشرقية والمغربية والجزائرية، وهي تجربة تضفي على الرواية حوارية فنية تعيد على نحو صامت التوجه نحو الماضي، وتأمل الراهن عبر طلاوة رمزية تكشفها استراتيجية الكتابة وممكناتها الدلالية. بيد أن رهان السارد على تجديل العلاقة بين الذات والآخر لم يكن مرده الانصهار المألوف بين الحبيب والمحبوب، بل تقديم رؤية مفادها أن الحب لا يتحقق إلا في ضوء وعي بتاريخ الذات وأفقها الاجتماعي والأخلاقي.
كاتب مغربي