
حسن داوود
للأطفال، أو الأولاد، طريقتهم أيضا في خوض الحرب. ولهم معاركهم أيضا مثلما هي «حرب الدوبلرز» حسب إحدى قصص الكتاب، التي تخاض بالحجارة وبأدوات أكثر إيذاء. كما لهم مخيّلاتهم التي دفعت بعضهم، أو بفريق منهم، إلى تعريض الفتاة سعيدة، المصابة بأكثر من إعاقة واحدة، إلى أن تكون هدفا مقصودا لعضّات الكلب ونهشه. ولهم طريقتهم في استنباط الألقاب منها حيث هناك مَن لقبُه «كلاشينكوف ورد» وآخر «أبوكاليبس» (أو نهاية العالم) بحسب الترجمة المثبتة إزاء اللقب) و»توكسيدو» و»مجحاف» إلخ. ألقاب سيطلقونها على بعضهم بعضا، كما على من هم في أعمار أهلهم.
كما أنهم يستعينون برفاقهم، لتبادل المنامات، وذلك بعد أن احتاج أحدهم إلى صبيّ آخر يحلم، نيابة عنه، بآنيا التي يحبها لكونها ممتنعة عن الظهور له في المنامات. ولم يكن ذلك مجرد خدمة يؤديها الحالم إلى المحتاج لحلمه، بل توجّب هذا الأخير أن يشتري الأحلام ويدفع ثمنها نصف أجره الأسبوعي. كان يقول لمن يشتري ذلك منه: «أحلامك ممتازة. لا زوائد فيها.. ولا شوائب. إنها دليل على قوة حبيّ لآنيا. أنت تعلم أنك لست من يحلم بها، بل أنا، لكنّي أفعل ذلك من خلالك». وللمنامات حضور طاغ على كل حال في أغلب قصص المجموعة التي يخال قارئها أن الخيال المتدفّق في وصف تفاصيلها يأتي أكثره من المنامات، تلك التي تجعل خروف أنياس، واسمه نونا، وهو بثلاث أرجل، يمشي مستعينا بأيبود ويخوض مسابقات في الركض على الرمل لكنه، بخلاف ما ترسم القصص لحيواناتها الأليفة، ينتهي مذبوحا على يد والد أنياس وذلك بعد أن انحبس في الحلم، داخل قنينة.
أما عن البقرة «ورد» التي صارت عمياء، فقد فخّخها «رجال جاءوا للزيارة من أجل أن تُنوَّم بالمهدئات وتمشي، بما يشبه التحكم بها بالريموت، لكي تنفجر في المستوطنات». لكن لا تقتصر غرائب الأولاد وأعاجيبهم على العبث بالحيوانات، أو بأصحاب الإعاقات، فهم يكيدون لأقاربهم ولذويهم أيضا، حيث لا شيء هنا ملتزم السياق البروتوكولي الذي أُرسي في الأدب لقصص الصغار. فها هو البطل الملاكم في صف البكالوريا، أو ما قبل البكالوريا بقليل، يموت بخبطة على الرأس أتته قبل بداية مباراته الأخيرة. «أنطولوجيا الضربة الأخيرة» هو عنوان هذه القصة التي تتفرّع سرديا في أكثر من اتجاه، شأن أكثر قصص الكتاب. ففيما كان ينبغي، حسب بروتوكولات سردية أخرى، أن يستمر البطل في بطولته تحوِّله الرواية إلى جثّة مسجاة على طاولة في غرفة الراوي نفسه، ذاك الذي يصف كيف أن أباه طُرد من عمله في المستشفى، لكن ليس طردا كاملا، إذ سمح له المسؤولون في المستشفى بأن يأخذ الجثث إلى بيته ليتم تشريحها هناك. هكذا، نوع من الدوام الجزئي في عمل الممرض حارس جثث الموتى.
وما يخالف الأدب الناقل لعوالم تلك الأعمار نقرأ هنا كيف أن أغلب العائلات، منذ بداية كل من القصص، فاقدة لأحد الأبوين، الأب أو الأم، أو أنها فقدتهما معا، أو أن أحدهما، الأمّ على وجه الخصوص، تهدّد بالانتحار على الدوام، وربما تنجح في إنجازه.
يقترح الكاتب على قرّائه خيارين، أحدهما أن تُقرأ كل من القصص لوحدها، والثاني هو أن تُقرأ المجموعة كقّصة واحدة. الأرجح أننا نقرأ، أو أننا قرأنا، «يوميات» لصبيّ واحد، او يوميات متفرّقة لصبيان عديدين. ما قد يختبره القارئ هو أن القصة الواحدة المتفرّقة والذاهبة أطرافها كل في اتجاه يمكن أن تُقسم إلى قصص داخل القصة الواحدة. لكن رغم ذلك يظل الكاتب ممسكا بخيط السرد، أو بخيوطه كلما تعدّدت. لكن على الدوام هناك ما يدعو دائما للعودة إلى الكتاب، ذلك الجاذب لمتابعة القراءة هو ما يتساءل حوله العائد دوما إلى متابعة مجريات قصصه. هل هو الخيال المتدفّق والمفاجئ على الدوام، هل هي الشخصيات العجيبة المخترعة التي يمكن أن تستوي كل منها كشخصية روائية مكتملة؟ هل السرد، حامل الغرابة والمُصدَّق في الوقت نفسه؟ ربما كان ذلك قائما في العالم الجديد الذي يصل في تفرّعه إلى ما يتعدّى كل ما عرفناه من أعمال شذّت عن تصوير الطفولة العادية، ثم إن هؤلاء، الصغار، لم تأت سيرهم لتصف معاناتهم من هول الحرب، بل إنهم أتوا ليقولوا إنهم شاركوا فيها، فاعلين على طريقتهم، رواة لها على طريقتهم أيضا، وليسوا متلقّين أو ضحايا. أو ربما ليبلغونا أننا خطأ ظننا أن الحرب قد تمّت روايتها، والدليل على ذلك أننا هنا نبدأ روايتها من جديد وبتفاصيل، حقيقية كانت أو وهمية، تتجاوز كل ما روي عنها من قبل.
مجموعة مازن معروف القصصية الجديدة «كيوم مشمس على دكّة الاحتياط» صدرت عن دار نوفل في 276 صفحة لسنة 2022.
كاتب لبناني