«عين الحرف الثالثة» ـ هايكو … الطبيعة و هوس الشاعر

2022-10-24

ظاهر حبيب الكلابي

تعتبر نصوص الهايكو في المجموعة الشعرية «عين الحرف الثالثة» للشاعرة السورية دارين زكريا الصادرة عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع- العراق. من النصوص التي قاربتْ فيها الشاعرة حالة التماهي الوجداني المُتخيل، مع متحولات ذلك الخيال وهو يصنع علاقات مميزة مع الأشياء ومفردات الطبيعة، لتكون العلاقة أكثر تفجراً دلالياً ومتحولاً نابضاً بالمغايرة والجمال، كونه ترجمان حال الشاعرة في تفسير العلاقة الجديدة ومنح تعاريف مغايرة تُضاف إلى رصيد الشاعرة والقارئ، من حيث كونها توصيفات خارجة عن القوالب المعتادة المتصفة في المعظم بالجمود والانغلاق، وعدم القدرة على التمدد والاتساع، أما التعريفات والتسميات الجديدة التي تمنحها الشاعرة دارين للأشياء، فهي تشع بالدلالات المتجددة وبالتغاير والتمايز بالإضافة إلى التمدد والاتساع لتحقيق الدهشة والانفعال والتفاعل عبر صناعة مائزة للوهم الجميل، وهذا في الحقيقة ما يبتغيه الشعر، خاصة في جنس الهايكو.

عبر عتبة «عين الحرف الثالثة» الذي عملتْ الشاعرة زكريا من خلاله على تجسيم وكونية الحرف ونقله من حالة الرسم الجامد إلى طاقة الحياة والرؤيا، التجسد والإبصار، فهو لا يتجسد بعينين مرتكزتين على المعتاد والمألوف، وإنما هناك عين ثالثة هي الحاسة الماسكة للفيض اللاقطة للأشياء من علو، لربما يمكن تشبيهها برؤية الطائر كما يجري في زوايا التصوير السينمي، فالعين الثالثة التي تدل على البصيرة بشكل مختصر والمعروف، أنها موجودة عادة في منتصف جبهة الإنسان، يمكن إسقاطها أو تأويلها على الحرف أيضاً، كما أرادتْ زكريا في عنونة ديوانها، حيث تكون هذه العين هي عين تجليات المسكوت عنه في الطبيعة، أو في النفس المحبوسة في إطار الخوف المُجذر أو الحياء الموروث، فجعلتْ الشاعرة من توقيعاتها الشعرية دلالات رامزة للكشف وفضح المستور، بما تمتلكه نصوص الهايكو من إيجاز، تكثيف واقتصاد لغوي، ونرى في هذا الديوان أن عين حرفها كانت عيناً بصيرة عليمة اختزلتْ ما يُراد قولهُ بحنكة وتمكن لغوي، كما استطاعتْ أن تجعل القارئ يستعير عينيها ويرى بهما ما تود طرحهُ عليه بصورة مختصرة مكثفة ومدروسة، حيث أن الكثير من الهايكو لديها يهديكَ حكمة معينة لتتفكر بها قليلاً، أو مشهدا حيويا يتجلى ليقول لك: هكذا أنا أجمل.

نتلمس للشاعرة بعض نصوص الهايكو، التي قامت بتجزئته إلى خمسة أبواب، من الباب الأول:

مسروقات من الطبيعة

(اتفقتْ على ألا تتفق/ كل له مزاجهُ الخاص/ فصول السنة) – (تشعرُ باللذة/حين يستوي الرمان/ مُراهقة) – (تسهرُ على راحة الظلام/ كأنها أمه/ بومة) – (تلونتْ وجنتاهُ بالحمرة/ لأن السماء قبلتْهُ- الشفق) – (لم ترسُ/ يوماً على قرار/ الموجة) – (على الملأ/ تدقها كل لرعود/ بغيٌ هي الغيمة) – (لا يحلو لها الهرجُ و المرجُ/ إلا ليلاً/ ريحٌ عاهرة) – (كلما اشتهى/يرفع للستارةِ ثوبها/ ما أوقحهُ الهواء) – (يُحبلُ الأشجارَ مرةً واحدة/ «دونجوان» فحل- الربيع).

كأن الشاعرة أرادتْ القولَ في ما سبق: نحن من الطبيعة وإليها نعود، حيث تماهتْ معها محققة السيرة الأولى لكتابة الهايكو في أنسنة الطبيعة، أو لنقل دمج الحس والمشاعر الإنسانية مع الطبيعة الأم وأبنائها، حيث أعادت إنتاج الدوال المنبثقة بين بصيرة الشاعر وثراء خياله، إضافة إلى رصيده اللغوي والجمالي في عملية إنتاج الخطاب ومنحتْ ما يراه الإنسان بشكل يومي ولا ينتبه لربما لدائرة حياته أو تأثيره الجمالي بشكل مختلف وأعطتْهُ وصفاً جديداً مغايراً بعينها الثالثة فكتبت برؤيتها عن (الموجة – البومة- الربيع- الريح- الشفق-الهواء- الغيمة إلخ) كأنها استعارتْ لسان الطبيعة قليلاً لتعبر عن نفسها بلغة شعرية مرهفة مكتنزة، خاصة أيضاً، حيث تجعل القارئ يتلمس قناع مرموزاتها لإقامة جسور وقناطر علائقية بين ذاتها الشاعرة وذات الطبيعة المحيطة بها أو لنقل بالجميع. كما جعلتْ دارين لكونية الذات الإنسانية ومواجعها وتقلبات أحوالها محطات للمراودة والمحاكاة، آثرتْ بجرأة كشف المخبوء عبر نصوص دالة وراكزة بالأسى الكوني وتحولات المصير، لتكسر الطوق عن دواخل الشاعر أو موضوعاته المخفية لربما، وتتناول الذات لتمسح الصدأ عن محيا وجودها، أو قسوة تاريخها أحياناً عبر عتبة نصية أسمتها «ثرثرة من الذاكرة» حيث نبشتْ الماضي وأجلستهُ أمامها لتصفي معه حسابها طامعةً باجتياز عتبته القهرية الصادمة، فقالت:

(يناظرُ دمعي/ باستغراب/ هايكو الذاكرة) – (مرات خنقتُ دارين الصغيرة/ ما زالتْ حية/ وأنا متُ) – (أناظرها ولا تراني/الآن اعترفتْ بي/مرآتي) – (يشعر بالضيق/ من كل هذا اللوم/ قبر أبي).

وعبر عتبة نصية ثالثة «عين الكاميرا»، التي صورتْ من خلالها العديد من التقاطات حياتية بطريقتها الخاصة، نختار للشاعرة زكريا بعض النصوص:

(كلما بكى طفل/سالَ نهدُها حليبا كاذبا/ العاقر) – (على رنة خلخالها/ تتمايلُ لهفتهم/الراقصة) – (حين تغني/ يتلهى الجن عن أعمالهم/ فيروز) – (لم يقتل البطلة/ قتل حبيبتهُ على الورق/ الروائي) – (لا ينزل دمعهُ العزيز/ إلا بصحبة المطر/ اليتيم)

كما كان للحرب لسان تتحدث به عن بعض قهرها من خلال الشاعرة السورية، حيث يرد في الباب الرابع «لقطة حرب»:

(يتعانق الأهل والغرباء/ بحرارة في/ المقابر الجماعية) – ( تغذي على قهري/ قالتْ دمعةُ العجوز/ لعدسةِ المصور) – (لم تفترْ/ خصومتها مع الريح/ المخيمات السورية)

كما أن الشاعرة في باب «كاميرا اليوم» منحتْ بغداد العريقة والعراقيين وصفاً مائزاً بالسمو والشموخ في نص مختصر كثيف الدلالة، عميق الأثر بقولها (حاولَ النخيلُ/ التشبه بالعراقيين/ فسَمَا) – (ساحرة/ كأنها سليلة السماء الأولى/ بغداد).

تعتبر نصوص هذه المجموعة الشعرية المؤلفة من (95) صفحة من القطع المتوسط، إضافة إبداعية جمالية إلى أسلوب كتابة وتجربة الشاعرة السابقة المؤلفة من ثلاثة دواوين شعرية ومجموعة قصصية، حيث عملتْ في كتابها الخامس «عين الحرف الثالثة» على توظيف الطبيعة وتجليات الأنا والآخر لتؤكد مقدرة الشاعر/ة العربي/ة على تناول معطيات العصر بشكل تعبيري منصف للجمال والتميز، عبر الأجناس المختلفة للقول الشعري ومنها جنس الهايكو، الذي لربما يتوهم البعض بأنه ذو لغة بسيطة وكتابة سهلة، على الرغم من أنه يحتاج إلى حنكة خاصة ومقدرة معينة على صناعة الدهشة، بالإضافة إلى قواعده الصارمة نوعاً ما، ما يجعل الكثير يقع في فخ الومضة بدل الهايكو وما نصوص «عين الحرف الثالثة» إلا تجسيد مميز بثراء المعنى، متانة المبنى، جمال الصور، تنوع المواضيع وتلبس القالب والشكل الشعري للهايكو من قبل الشاعرة بتمكن ملموس.

كاتب عراقي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي